في سابقة هي الأولى من نوعها، تجد المؤسسات الصحفية العالمية نفسها في موقف دفاعي بعد أن كشفت التحقيقات عن نشر مقالات كاملة معتمدة بالكامل على تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما أثار موجة من القلق حول مستقبل صناعة الصحافة في ظل التطور التكنولوجي.
سارعت العديد من المؤسسات الصحفية الكبرى في الأشهر الأخيرة إلى اعتماد هذه التقنيات في محاولة لخفض التكاليف وزيادة الإنتاجية، لكن هذا التحول لم يخل من مخاطر وعواقب وخيمة، تجلت في سلسلة من الفضائح الصحفية التي طالت بعض أبرز العناوين الإعلامية العالمية.
الذكاء الاصطناعي يختلق الوقائع
وفقاً لصحيفة “برس جازيت” البريطانية المتخصصة في شؤون الصحافة، فإن مجلة “بيزنس إنسايدر” اضطرت إلى حذف مقالات بعد أن تبين أنها كُتبت باستخدام الذكاء الاصطناعي، بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان المجلة عن خطتها لشطب نحو ثلث وظائفها في ظل تزايد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ولم تكن “بيزنس إنسايدر” وحدها في هذا المأزق، فقد اضطرت مطبوعتان أخريان هما مجلة “وايرد” المتخصصة في موضوعات التكنولوجيا وموقع منظمة “إندكس أون سينسورشيب” (مؤشر الرقابة) المعنية بمراقبة حرية التعبير، إلى حذف موضوعات تم نشرها باسم الكاتبة ماراجو بلانشارد، وقد تم حذف هذه المقالات بعد اكتشاف أخطاء جسيمة تمثلت في اختلاق أسماء بلدات وشركات، لم يكتشفها المحررون قبل النشر.
وكشفت التحقيقات أن بلانشارد استخدمت الذكاء الاصطناعي لكتابة مقالات كاملة تحتوي على معلومات مختلقة، بما في ذلك اختلاق بلدات وهمية وشركات غير موجودة، مما أثار تساؤلات حول قدرة المحررين البشريين على اكتشاف هذا النوع من التلفيق.
كيف انخدعت المؤسسات الصحفية الكبرى؟
نشرت مجلة “وايرد” مقالاً لبلانشارد عن أزواج حقيقيين “يتزوجون” عبر الإنترنت من خلال منصات مثل “ماينكرافت” و”روبلوكس”، لكنه تبين لاحقاً أن المقال كان مليئاً بالمعلومات المختلقة.
واعترفت المجلة في بيان اعتذار نشر في أغسطس الماضي: “إذا كان هناك أي جهة تستطيع اكتشاف احتيال الذكاء الاصطناعي، فهي وايرد.. للأسف، نجح أحدهم في تضليلنا”.
أما مجلة “بيزنس إنسايدر” التي نشرت مقالين لبلانشارد في أبريل الماضي، فقد حذفت المقالين ووضعت بدلاً منهما رسالة تقول: “حُذف هذا المقال لعدم استيفائه معايير بيزنس إنسايدر”. وكان من بين العناوين التي نشرتها: “العمل عن بُعد كان أفضل شيء لي كوالد، ولكنه الأسوأ بالنسبة لي كشخص”، و”أنجبت طفلي الأول في سن الخامسة والأربعين. أنا مستقر ماليًا ولدي سنوات من الخبرة الحياتية تُرشدني”.
انتكاسة لمساعي خفض التكاليف
يمثل هذا التطور انتكاسة لجهود العديد من غرف الأخبار التي تسعى لخفض التكاليف وزيادة الإنتاجية باستخدام الذكاء الاصطناعي، ففي وقت تشير فيه دراستان أُجريتا في مارس وأغسطس إلى أن نحو نصف صحفيي العالم يعتمدون حالياً على هذه التقنية في إنتاج موادهم الصحفية، تأتي هذه الأخطاء لتكشف عن الوجه الخطر لهذا الاعتماد.
واللافت أن هذه الحوادث تتزامن مع اتجاه العديد من المؤسسات الصحفية إلى تسريح الموظفين لصالح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، حيث أعلنت “بيزنس إنسايدر” عن تسريح 21% من موظفيها في إطار سعيها “لتبني الذكاء الاصطناعي بشكل كامل”، قبل أن تكتشف أن المواد المنتجة بهذه التقنية لا تستوفي معاييرها المهنية.
لماذا يفشل الذكاء الاصطناعي في الصحافة؟
تكمن المشكلة الأساسية في أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تعمل بشكل أساسي على توليد النصوص بناءً على أنماط إحصائية دون فهم حقيقي للمحتوى، وتفتقر إلى القدرة على التمييز بين الحقائق والخيال، مما يدفعها إلى اختلاق معلومات وهمية تبدو مقنعة للقارئ العادي.
ويوضح الخبراء أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تميل إلى “الهلوسة” أو توليد معلومات غير صحيحة عندما لا تملك بيانات كافية عن موضوع معين، وهذا السلوك يشكل خطراً جسيماً على الصحافة التي تقوم على دقة المعلومات وصحتها.
صحفيون يحذرون من المخاطر
أثارت هذه الحوادث موجة من القلق بين الصحفيين والمحررين، الذين حذروا من المخاطر المترتبة على الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الصحفي. وأكد العديد من الخبراء أن هذه التقنيات لا تزال غير ناضجة بما يكفي لتحل محل الصحفيين البشر، خاصة في مجال التحقق من الحقائق ومراجعة المعلومات.
ودعا صحفيون كبار إلى وضع ضوابط صارمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، مع التأكيد على ضرورة وجود رقابة بشرية على أي محتوى يتم إنتاجه باستخدام هذه التقنيات.
مستقبل الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي
تواجه المؤسسات الإعلامية معضلة حقيقية في عصر الذكاء الاصطناعي: فمن ناحية، هناك ضغوط اقتصادية هائلة تدفع نحو تبني التقنيات الجديدة لخفض التكاليف وزيادة الكفاءة، ومن ناحية أخرى، هناك التزام أخلاقي ومهني بالاحتفاظ بمعايير الدقة والمصداقية التي تقوم عليها مهنة الصحافة.
ويبدو أن الحل الوسط يكمن في تطوير آليات مراقبة أكثر صرامة للمحتوى المنتج بالذكاء الاصطناعي، مع الاستمرار في الاعتماد على المحررين البشر للتحقق من الحقائق ومراجعة المواد قبل نشرها، كما يتطلب الأمر تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تطوراً قادرة على فهم الفرق بين الحقائق والخيال، والالتزام بالمعايير الأخلاقية للمهنة.
نقلاً عن : تحيا مصر
- مش فوضي الإخطار قبلها بـ 10 أيام.. قانون العمل ينظم ضوابط إضراب العمال - 1 سبتمبر، 2025
- كنت مرعوبة من مسلسل اخواتي.. والسقا عيشنا مغامرات في أحمد وأحمد - 1 سبتمبر، 2025
- إزالة الحواجز رسالة واضحة أن مصر لا تقبل سياسة الكيل بمكيالين - 1 سبتمبر، 2025