في خطوة تعكس اهتمام الدولة المصرية بإعادة تشكيل الشخصية الوطنية، طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً بإحياء تجربة الكتاتيب التقليدية، التي لطالما لعبت دوراً أساسياً في تشكيل وعي الطفل المصري منذ قرون، فيما تعمل الحكومة حالياً، بالتنسيق بين رئاسة الوزراء ووزارة الأوقاف، على دراسة مقترح رسمي لإعادة الكتاتيب ضمن منظومة التعليم المجتمعي، باعتبارها وسيلة لغرس قيم “التسامح” و”حب الوطن” و”احترام الآخر”.
في هذا التقرير لـ”تحيا مصر” نستعرض تاريخ الكتاتيب في مصر، ونتتبع بداياتها وأهم المحطات التي مرت بها، ونرصد دورها في تشكيل البنية التعليمية والثقافية للمجتمع المصري على مر العصور، مع تسليط الضوء على كيفية تطورها من مؤسسة دينية بسيطة إلى رافد أساسي من روافد التعليم قبل ظهور المدارس النظامية.
الكُتّاب… النواة الأولى للتعليم في مصر
تعود أصول الكتاتيب في مصر إلى أواخر العصر المملوكي، حيث أنشأ السلطان قايتباي واحداً من أقدم الكتاتيب الملحقة بالسبيل عام 1479، وفي العهد العثماني، بلغت الكتاتيب أوج ازدهارها، لتصبح مؤسسات أساسية لتعليم الأطفال، خاصة في المناطق الشعبية، وكانت تُبنى غالباً فوق الأسبلة – المباني التي توفر مياه الشرب للناس – إذ يشغل الكتاب الطابق العلوي بينما يحوي الطابق السفلي خزانات المياه.
المؤرخة نللي حنا تذكر في كتابها “ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية”، تؤكد أن عدد الكتاتيب في القاهرة بلغ نحو 300 في نهاية القرن الثامن عشر، حين كان عدد سكان المدينة نحو 260 ألف نسمة، وكانت هذه الكتاتيب، كما يؤكد الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامي، تموَّل من الأوقاف التي خصصها أصحاب الخير، وتشمل تعليم التلاميذ وتحفيظهم القرآن، وتوفير الكسوة لهم وحتى الهدايا في المناسبات، حسب تقرير لـ”بي بي سي عربية”
مسار التعليم الديني من الأزهر إلى الكتاب
كان الالتحاق بالكتّاب بمثابة الخطوة الأولى نحو الأزهر الشريف. الطفل المصري يبدأ حياته التعليمية في الكُتاب بحفظ القرآن، ومن يتميز يُمنح فرصة الانتقال إلى حلقات العلم بالأزهر. في تلك المرحلة، لم تكن هناك مدارس نظامية منتشرة، وكان الكُتاب هو الأداة الرئيسية لنشر التعليم، خاصة في القرى والأحياء الشعبية.
وعرف الكُتاب أشكالاً متعددة، فبعضه كان في بيوت خاصة أو زوايا صغيرة داخل المساجد، والبعض الآخر أُلحق بالمساجد الكبيرة، كما في حالة كُتاب السلطان لاجين داخل مسجد أحمد بن طولون، الذي خُصص لتعليم الأيتام.
إصلاح الكتاتيب في عهد الخديوي إسماعيل
مع بداية حكم الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ يتراجع دور الكُتاب تدريجياً، بعدما تم إنشاء شبكة حديثة لتوصيل المياه، ففقدت الأسبلة وظيفتها، وبالتالي انفصلت الكتاتيب عنها. وقد أسند إسماعيل مهمة إصلاح التعليم إلى علي باشا مبارك، الذي صُدم من الحالة المتردية التي كانت عليها الكتاتيب، من حيث البنية الصحية والتعليمية وسلوك الفقهاء الذين يديرونها.
ووفقاً لما وثّقه المؤرخ أحمد أمين في كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”، وصف علي باشا مبارك وضع الكتاتيب بأنها “في حالة يُرثى لها”، إذ كانت تُقام في غرف ضيقة مجاورة للمراحيض، يختلط فيها الأطفال الأصحاء بالمرضى، دون أي إشراف صحي أو تربوي.
بدأت نِظارة المعارف، بإشراف علي مبارك، بإحصاء الكتاتيب وتقسيمها إلى جيدة ومتوسطة ورديئة، ووُضعت لائحة تنظيمية أُطلق عليها اسم “لائحة رجب”، تضمنت تحسين أوضاع الفقهاء، وتوفير شروط صحية داخل الكتاب، وفرض نوع من الرقابة على أدائه.
الكتاتيب الحديثة
مع تنفيذ خطة الإصلاح، ظهرت الكتاتيب الحديثة، التي حاولت المواءمة بين الأهداف الدينية والاحتياجات التعليمية. خضع الشيوخ القائمون عليها لدورات تدريبية، وتلقوا رواتب رمزية، وتعلّم بعضهم مبادئ الحساب والخط العربي ليُدرسوها للطلاب، كما شجعت الحكومة الأهالي على المشاركة في تطوير الكتاتيب، وطلبت من العمد وأعيان القرى توفير مبانٍ مناسبة.
ورغم هذه الإصلاحات، لم تُعتبر الكتاتيب مؤسسات تعليمية معترف بها، بل ظل دورها محصوراً في تمهيد الطريق للدراسة في الأزهر أو العمل في وظائف بسيطة، مثل الكتبة أو المؤذنين أو الموظفين الصغار.
نهاية هيمنة الكُتاب
في عام 1923، ومع صدور أول دستور مصري في عهد الملك فؤاد الأول، نصّت المادة 19 على أن التعليم الأولي أصبح إلزامياً ومجانياً، وشكل هذا التحول منعطفاً كبيراً في تاريخ التعليم في مصر، حيث بدأت الدولة تؤسس المدارس الأولية بمبانيها الحديثة، ما أدى تدريجياً إلى تراجع الكتاتيب التقليدية، خاصة في المدن.
غير أن الكتاتيب لم تختفِ تماماً، إذ ظل بعضها قائماً في القرى النائية، لتعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن، دون أن تُعدّ هذه المرحلة مؤهلة للالتحاق بالمدارس النظامية.
الكتاتيب اليوم
الحديث عن عودة الكتاتيب اليوم لا يعني استعادة شكلها القديم، بل محاولة لتحديث نموذجها ضمن إطار تربوي جديد، فالحكومة تسعى لتوظيف هذا التراث في ترسيخ القيم المجتمعية والدينية، والمساهمة في بناء شخصية الطفل المصري، لا سيما في القرى والمناطق التي تعاني من ضعف البنية التعليمية.
نقلاً عن : تحيا مصر
- معلمو الحصة فوق الـ 45 عاما يطالبوا «التعليم» بتنفيذ 4 مطالب مهمة - 27 أغسطس، 2025
- تعرف على غيابات الزمالك أمام وادي دجلة في الدوري - 27 أغسطس، 2025
- الكتاب الإلكتروني سيصبح بديلا للورقي.. اعرف السبب - 27 أغسطس، 2025