باحثون يطورون مادة حيوية قد تحدث ثورة في علاج التهاب المفاصل

كشف فريق بحثي من جامعة كامبريدج البريطانية عن تطوير مادة جديدة قد تحدث ثورة في علاج التهاب المفاصل، والتي تعمل مثل “غضروف اصطناعي” قادر على استشعار التغيرات الدقيقة داخل الجسم، مثل تلك التي تحدث أثناء نوبات الالتهاب الحاد، ومن ثم إطلاق الأدوية في المكان والوقت المطلوبين بالضبط.
وبحسب الدراسة المنشورة في “دورية الجمعية الأميركية للكيمياء” (Journal of the American Chemical Society)، يمكن تحميل المادة الهلامية المرنة بأدوية مضادة للالتهاب تستجيب للتغيرات الطفيفة في درجة الحموضة داخل الجسم.
وأثناء نوبة التهاب المفاصل يصبح المفصل أكثر حموضة من الأنسجة المحيطة، وهنا يتغير تركيب المادة لتصبح أكثر ليونة وتشبه الجل، ما يؤدي إلى إطلاق الدواء المخزن بداخلها.
ولا تستجيب المادة إلا في نطاق ضيق جداً من الحموضة، ما يعني أن الدواء يحرر فقط داخل المفصل المصاب وفي وقت الالتهاب، وهو ما قد يقلل بشكل كبير من الآثار الجانبية المرتبطة بالعلاجات التقليدية.
وإذا جرى استخدام هذه المادة كغضروف اصطناعي داخل المفصل، فقد تتيح علاجاً مستمراً وذاتي الاستجابة لالتهاب المفاصل، ما يزيد من فاعلية الأدوية ويخفف الألم والالتهاب على المدى الطويل.
أرقام غير مسبوقة في أمراض المفاصل
في عام 2021، سجل العالم أرقاماً غير مسبوقة فيما يخص أمراض المفاصل، حيث عانى أكثر من 606 ملايين شخص من الفُصال العظمي، بينما أصيب أكثر من 18 مليون شخص بالتهاب المفاصل الروماتويدي.
وتعكس هذه الزيادة الملحوظة منذ عام 1990 بوضوح أثر التغيرات الديموغرافية، وعلى رأسها النمو السكاني والتقدّم في العمر، حتى بات التهاب المفاصل من أبرز أسباب الإعاقة في العالم، خصوصاً لدى كبار السن الذين تتأثر حياتهم اليومية بشكل مباشر.
المواد يمكنها أن “تشعر” بوجود خلل في الجسم وتستجيب فوراً عبر إطلاق العلاج في المكان المناسب، وهو ما قد يقلل الحاجة إلى تكرار جرعات الأدوية ويحسن حياة المرضى.
المؤلف الأول للدراسة “ستيفن أونيل”
كما تكشف تلك الأرقام حجم التحدي الذي يواجه النظم الصحية. ووفقاً لدراسة “العبء العالمي للمرض” لعام 2021، بلغ معدل الانتشار العمري المعياري 6967 حالة لكل 100 ألف نسمة، أي بزيادة نسبتها 9% مقارنة بعام 1990. ولا تبدو الصورة المستقبلية أقل إزعاجا، إذ يتوقع الباحثون أن تشهد أعداد الحالات قفزة كبيرة بحلول 2050 نتيجة التقدم في العمر وزيادة عدد السكان عالمياً.
لكن هذه الأعباء ليست موزعة بالتساوي بين الدول والمناطق، ففي 2021، سجلت منطقة آسيا والمحيط الهادئ ذات الدخل المرتفع أعلى معدلات الانتشار مع 8608.6 حالة لكل 100 ألف نسمة، تلتها أميركا الشمالية ذات الدخل المرتفع بمعدل 8421.6 حالة لكل 100 ألف نسمة.
أما في الطرف المقابل، فقد كانت أدنى المعدلات في جنوب شرق آسيا (5675.8 حالة) وإفريقيا جنوب الصحراء الشرقية (5830 حالة)، ما يعكس تأثير العوامل الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية في انتشار المرض.
وكشف تحليل نُشر عام 2023 أن الركبة تمثل الموقع الأكثر عُرضة للفصال العظمي عالمياً، بمعدل 4307.4 حالة لكل 100 ألف نسمة، يليها مفاصل اليد التي سجلت 2226.1 حالة، ثم الورك بمعدل أقل بكثير بلغ 4177 حالة. وهذا التفاوت يرتبط بالاستخدام المستمر للمفاصل، والوزن الزائد، والتغيرات الميكانيكية في الجسم مع التقدم في العمر.
أما التهاب المفاصل الروماتويدي، وهو مرض مناعي ذاتي يختلف عن الفصال العظمي، فيؤثر بدوره على ملايين البشر حول العالم. ففي عام 2019، قدّرت منظمة الصحة العالمية عدد المصابين بنحو 18 مليون شخص.
ومن المعروف أن النساء تحديداً أكثر عُرضة للإصابة بمعدل يتراوح بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالرجال، بينما يظهر المرض غالباً بين سن 40 و70 عاماً. وما يزيد من خطورته أن نحو 13 مليون مريض حول العالم يعانون أعراضاً متوسطة إلى شديدة تحتاج إلى إعادة تأهيل للتخفيف من أثر الإعاقة على حياتهم.
تتداخل عدة عوامل في زيادة العبء العالمي لأمراض المفاصل، ويظل التقدم في العمر يظل العامل الأكثر وضوحاً، لكن السمنة تلعب دوراً محورياً أيضاً، إذ تساهم زيادة مؤشر كتلة الجسم في أكثر من 20% من حالات الفصال العظمي المسجلة عام 2020.
صورة أكثر تعقيداً
وبالنظر إلى المستقبل، فإن التوقعات تضعنا أمام صورة أكثر تعقيداً، فمن المنتظر أن ترتفع أعداد المصابين بالفصال العظمي عالمياً بنسبة تتراوح بين 48% و95% بحلول عام 2050، بحسب المفصل المصاب.
أما التهاب المفاصل الروماتويدي، فيتوقع الخبراء أن يتضاعف عدد مرضاه بحلول 2030، بفعل الشيخوخة.
وطورت المادة في مجموعة أبحاث البروفيسور “أورن شيرمان” في قسم الكيمياء بجامعة كامبريدج، وتعتمد على شبكة من البوليمرات مرتبطة بروابط قابلة للعكس، أي أنها تتكون وتتفكك حسب الظروف المحيطة، خصوصاً درجة الحموضة.
عند حدوث التهاب في المفصل ترتفع الحموضة قليلاً، فتبدأ هذه الروابط في الانفكاك جزئياً، ما يجعل المادة أكثر ليونة وهلامية، فتفتح بنيتها الداخلية وتطلق الأدوية المخزنة بداخلها.
وفي الظروف الطبيعية، تبقى المادة متماسكة وصلبة نسبياً، فتشبه الغضروف في مرونته ووظيفته، وتعمل في الوقت نفسه كخزان ذكي يحرر الدواء فقط عند الحاجة، وهو ما يمنحها دوراً مزدوجاً يجمع بين دعم المفصل وتوصيل العلاج بدقة.
وقال شيرمان: “لطالما فكرنا في استخدام هذه المواد داخل المفاصل لأن خواصها تشبه الغضروف الطبيعي، لكن دمج ذلك مع توصيل دوائي دقيق يُعد أمراً مثيراً للغاية”.
وأشار المؤلف الأول للدراسة “ستيفن أونيل” إلى أن هذه المواد يمكنها أن “تشعر” بوجود خلل في الجسم وتستجيب فوراً عبر إطلاق العلاج في المكان المناسب، وهو ما قد يقلل الحاجة إلى تكرار جرعات الأدوية ويحسن حياة المرضى.
في التجارب المخبرية، حملت المادة بصبغة فلورية لاختبار سلوكها مكان الدواء، وعند مستويات الحموضة المرتبطة بالمفاصل الملتهبة، أطلقت المادة كمية أكبر بكثير من “الدواء” مقارنة بالمستويات الطبيعية.
من جهتها، قالت المؤلفة المشاركة في البحث “جايد ماكيون” إنه ومن خلال تعديل كيمياء هذه المواد الهلامية “نستطيع جعلها شديدة الحساسية حتى لأصغر التغيرات في الحموضة داخل الأنسجة الملتهبة، وهذا يعني أن الدواء يُطلق فقط عندما يحتاجه الجسم بالفعل”.
وأكد الفريق البحثي أن هذه الاستراتيجية يمكن تعديلها لعلاج أمراض أخرى مثل السرطان، عبر دمج أدوية سريعة المفعول وأخرى بطيئة المفعول في مادة واحدة، ما قد يسمح بعلاج يستمر لأيام أو أسابيع أو حتى أشهر.
ولفت الباحثون إلى أن الخطوة التالية ستكون اختبار هذه المواد في أنظمة حية للتأكد من فعاليتها وأمانها، وإذا نجحت، فقد تفتح آفاق جيل جديد من المواد الحيوية الذكية القادرة على علاج الأمراض المزمنة بدقة أكبر وكفاءة أعلى.
نقلاً عن: الشرق