خمسة دروس اقتصادية من فائز بجائزة نوبل هذا العام

درست الاقتصاد في جامعة إدنبرة، ما دفعني لقراءة الكثير عن التاريخ الاقتصادي لشمال بريطانيا، وهذا بدوره دفعني لقراءة الكثير من أعمال جويل موكير، أحد الاقتصاديين الثلاثة الذين فازوا بجائزة نوبل يوم الإثنين. لاحقاً، ومع انطلاق مسيرتي المهنية كاقتصادية، تعرفت عليه شخصياً، وما تزال أبحاثه الحديثة تُشكل فهمي للنمو.
كلما راودتني شكوك حيال مستقبل الاقتصاد، ألجأ إلى موكير، لأن عمله أساس فهمي لأسباب ازدهار بعض الاقتصادات وركود بعضها، وتراجع بعض آخر. فهو يُقدّم الأمل والتحذير للدول التي تواجه حالة عدم اليقين الاقتصادي الحالية، ويلقي الضوء على تساؤلات جوهرية حول تأثير الذكاء الاصطناعي وجدوى النموذج الصيني.
لأني معجبةٌ بعمله، وتكريماً لجائزة نوبل التي نالها، فكرتُ في تقديم أهم خمسة دروس من جويل موكير.
-
كثيراً ما يقاوم النمو
كان النمو الاقتصادي بالغ الأهمية للازدهار، فهو السبب أن الناس يعيشون عمراً أطول مع راحة بعيداً عن عناء العمل الشاق. لكنه غالباً ما يُقاوم، لأنه ينطوي على اضطرابات وعدم يقين. شرح لي موكير ذات مرة كيف رفض الرجال في البداية العمل في المصانع، فقد كانوا معتادين على العمل منفردين كمزارعين صغار أو حرفيين، رغم فقرهم وصعوبة الحياة. كان هذا ما يعرفونه.
كان مفهوم العمل الحديث -التواجد في مكان ما في وقت معين، والبقاء هناك طوال اليوم، وتلقي الأوامر من رئيس لا تربطك به صلة قرابة- مسيئاً ومُهيناً للرجال لدرجة أن المصانع اضطرت لسنوات إلى توظيف النساء والأطفال. استغرق الأمر بضعة أجيال من التكييف الاجتماعي حتى تمكن الرجال من تحقيق هذا التحول.
-
النمو يتطلب وقتاً
أصبح التصنيع ممكناً بفضل بعض الابتكارات الرئيسية التي غيرت طبيعة العمل والإنتاج. لكن كانت هناك اختراعات حاسمة لم يكن أحد يعرف كيفية التعامل معها في البداية، مثل المحرك البخاري، الذي شغّل المصانع وجعل الإنتاج الصناعي ممكناً. استغرق الأمر أكثر من 100 عام حتى تظهر مساهمته في إحصاءات الإنتاجية.
غالباً ما تستغرق الاختراعات المحورية سنواتٍ لإيجاد أفضل استخدام لها، وبطرقٍ لم يكن أحد ليتوقعها. صحيح أن سرعة تبني الابتكارات تزداد عاماً بعد عام. وصحيح أيضاً أن هناك اختراعات موجودة حالياً سيكون لها تأثير هائل على العالم بعد سنوات عديدة.
-
النمو لا يمكن التنبؤ به
الابتكارات الجديدة تدمر الوظائف، لكنها تخلق أيضاً وظائف جديدة- وليس مجدياً أن نحاول توقع ماهية الوظائف الجديدة. تحول الابتكارات الاقتصاد بطرق يستحيل فهمها.
قال لي موكير ذات مرة: “تخيلي أن تشرحي لشخص ما في عام 1920 ما هو خبير الأمن السيبراني”.
-
النمو مرتبط بالثقافة
سؤال واحد قاد أدب التاريخ الاقتصادي لعقود: لماذا كانت بريطانيا العظمى أول دولة في التصنيع والثراء؟ كانت دول أخرى أيضاً تخترع أشياء جديدة، أو تملك ثروات وموارد طبيعية أكبر، أو مناخاً أفضل.
غالباً ما يركز عمل موكير على ثقافة النمو، وهي ثقافة بالغة الأهمية. ويعود ذلك إلى الانفتاح على المخاطرة والتجريب. لقد شكل هذا جزءاً كبيراً من عصر التنوير الأسكتلندي، إذ حظي السكان بمستوى تعليمي جيد نسبياً، وكان هناك تركيز على إنسانيتهم، وقُدّرت قيم الفضول والفردية.
لا يكفي أن تستثمر الدولة الأموال وتُنشئ البنية التحتية؛ إذ لا يمكن للحكومة أن تخطط مركزياً لطريقها نحو الازدهار. غالباً ما تكتشف أهم الابتكارات من خلال التجربة والخطأ.
-
النمو ليس حتمياً
على مدى قرون، بالكاد نمت اقتصادات العالم. كان هناك بعض التقدم لكنه كان ضئيلاً، وعندما انتهت الإمبراطوريات، غالباً ما انتهى التقدم أيضاً. هذا ما يجعل القرون القليلة الماضية استثنائية. صحيح أن النمو يميل إلى التسارع، وأن الابتكارات التي تنمي الاقتصاد تولد اختراعات أعظم. لكن إذا لم تُحافظ على الظروف المناسبة للنمو، فلن يكون مضموناً.
مع مواجهة العالم لمستقبل من النمو المنخفض، يميل صانعو السياسات إلى جعل الحكومة تلعب دوراً أكثر فاعلية في الاقتصاد. لا شك أن للسياسات دوراً في ذلك. لكن على جميع الحكومات أن تدرك أن الوفرة لا تأتي من التخطيط الأفضل. فالعنصر الأساسي للنمو هو الانفتاح على المخاطرة وعدم اليقين والتغيير والإبداع. هذا هو الدرس العظيم لجويل موكير، وهذا ما يجعل لعمله أهمية بلا مثيل.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج