رحلة سعر البنزين.. كيف تحدد الدول ثمن الوقود ومن الأكثر دعماً؟

هل فكرت من قبل لماذا تدفع سعراً محدداً للتر البنزين، وكيف تُترجم قرارات السياسة المالية إلى رقم في محطة الوقود؟.. فأسعار بيع البنزين بالتجزئة التي تتباين في جميع أرجاء العالم بحسب كل بلد، تأتي نتيجة عوامل عديدة تمتد من اختلاف أنظمة ومعدلات الضرائب وحجم الدعم المقدّم من دولة إلى أخرى، على الرغم من حصول جميع الدول على النفط الخام من الأسواق العالمية بأسعار شبه موحدة. في هذا الموضوع نكشف آليات التسعير، ونقيم أثر نماذج الدعم، ونوضح أكثر الدول دعماً على المستويين العالمي والعربي.
ما الفرق بين تسعير البنزين في الأسواق الحرة والدول التي تقدم الدعم؟
في السوق الحرة للوقود، التسعير يعتمد على قوى العرض والطلب، وغالباً تُمرر أي زيادة في تكلفة النفط لمستهلكي الوقود مباشرة، والسعر عند محطة الوقود يعكس التكلفة الحقيقية بالإضافة إلى هامش الربح.
بالنسبة إلى البلدان التي تدعم أسعار البنزين، تحدد الدولة السعر المحلي أو تُقيّد زيادته بغض النظر عن التكلفة العالمية، وقد تستوعب الفروق، فتقلل أو تمنع تمريرها بالكامل إلى المستهلكين.
ما هي أرخص وأغلى الدول في أسعار البنزين حول العالم؟
يبلغ متوسط سعر البنزين حول العالم 1.30 دولار لكل لتر، ومع ذلك، هناك فروقات كبيرة في هذه الأسعار بين الدول، حسب بيانات أوردتها منصة “غلوبال بترول برايسز. كوم” (GlobalPetrolPrices.com) في يوم 29 سبتمبر.
جاءت 4 دول عربية ضمن قائمة أرخص بنزين في العالم، وحلت ليبيا في الصدارة ويبلغ سعر اللتر 0.028 من الدولار، وفق البيانات. كما حلّت الكويت في المركز الخامس ضمن قائمة أرخص بنزين في العالم، متبوعة بالجزائر ومصر، وفق القائمة التي شملت إيران وفنزويلا وأنغولا وتركمانستان.
من ناحية أخرى، تشمل قائمة الدول ذات السعر الأغلى للبنزين في العالم هونغ كونغ بحوالي (3.655 دولار/لتر)، وأيسلندا (2.483 دولار/ لتر)، والدنمارك (2.290 دولار/ لتر)، وهولندا (2.280 دولار/ لتر)، وإسرائيل (2.243 دولار/ لتر).
كيف تُحدد أسعار البنزين في دول الشرق الأوسط؟
تُعتبر أسعار البنزين في دول الشرق الأوسط مزيجاً معقداً من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ حيث تتفاوت بين البلدان، مما يؤثر بشكل مباشر على الأسواق والمستهلكين. ارتفاع الأسعار يزيد تكلفة النقل والسلع والخدمات، ما يقلل القدرة الشرائية للمستهلكين. كما أن الدعم الحكومي يخفض السعر المحلي، ما قد يشجع الاستهلاك ويزيد الضغط على الميزانية العامة. وقد يثير ارتفاع الأسعار بسرعة اندلاع احتجاجات، في حين يعزز الدعم المستمر رضا المواطنين.
السعودية
تجري شركة أرامكو السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، مراجعة شهرية دورية لأسعار البنزين المباع في السوق المحلية، وتتميز جميع أنواع البنزين لديها بخلوها من الرصاص، بحسب الموقع الرسمي للشركة.
ويحدد سعر البنزين في السعودية اليوم عن طريق المعادلة الآتية= (سعر السوق العالمي + تكاليف التكرير والنقل + هوامش التوزيع) + ضريبة/رسوم، مع مراجعة شهرية تعلنها الجهات المعنية (أرامكو/السلطات)، وتبقى الحكومة قادرة على التدخل أو تحميل الفارق في حالات استثنائية.
وتُعد أسعار البنزين مؤشراً مهماً لتكاليف التنقل والمعيشة في المملكة، وتؤثر على قرارات الأسر والشركات على حد سواء.
مصر
تعتمد لجنة تسعير الوقود في مصر، والتي تشكّلت في يوليو 2019، في قراراتها بشأن زيادة أو خفض أو تثبيت الأسعار، على متوسط أسعار خام برنت، وسعر صرف الدولار مقابل الجنيه، بالإضافة إلى معدل التضخم في قطاع النقل.
وفي 11 أبريل الماضي، رفعت مصر، للمرة الثانية خلال 6 أشهر، أسعار المواد البترولية. من جانبه، كشف وزير البترول والثروة المعدنية المصري كريم بدوي أن زيادة أسعار الوقود المقبلة، التي من المتوقع أن تتم خلال الشهر الجاري، وبعدها لن تكون هناك زيادة أخرى في ديسمبر، وفق وسائل إعلام محلية.
كان رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي قد أشار في وقت سابق إلى أن الحكومة تعتزم تنفيذ خطة لرفع دعم الوقود تدريجياً بحلول نهاية عام 2025، مع الاستمرار في تقديم دعم جزئي لمنتجات محددة، أبرزها السولار وأسطوانات غاز الطهي.
يوضح الرسم البياني أدناه زيادة لافتة في إنفاق الأسر المصرية على المواصلات خلال السنوات السبع الماضية، حيث تضاعف المتوسط السنوي لأكثر من ثلاثة أمثال، مرتفعاً من 8.8 آلاف جنيه في 2019 إلى 24.6 ألف جنيه في 2024، مع توقع أن يصل إلى 29.2 ألف جنيه في 2025.
الإمارات
يُراجع سعر البنزين في الإمارات بوتيرة منتظمة شهرياً من قِبل لجنة تسعير الوقود الإماراتية التي تُعدّل الأسعار لتعكس تحركات الأسواق العالمية والتكاليف المحلية؛ وتعلن التعديلات عادةً في نهاية كل شهر وتُطبَّق بدءاً من الأول من الشهر التالي.
تعتمد اللجنة في حسابها على مؤشرات دولية لأسعار المنتجات البترولية (مثل مؤشرات S&P Global Platts) مع احتساب فروق التكرير والنقل وهامش التجزئة، كما تأخذ في الحسبان تقلبات سعر الصرف والطلب المحلي.
ومنذ إلغاء الدعم الجزئي وربط الأسعار بالسوق عام 2015، اتّبعت الإمارات آلية مرنة تقرّب الأسعار المحلية من الأسعار العالمية، مع إبقاء هامش منظّم لتغطية تكاليف التوزيع وعمليات محطات الوقود. هذا الإطار يمنع تفاوتاً كبيراً بين الإمارات ويوفّر شفافية شهرية أمام المستهلك.
الكويت
سعر البنزين في الكويت كان تاريخياً محدداً إدارياً ويُدعم بدرجة كبيرة من الخزينة، لذا ظلّ السعر المحلي منخفضاً مقارنةً بالأسعار العالمية، مع تدخلٍ مباشرٍ من الجهات الحكومية في تحديد التعريفة.
الآلية الحالية تعتمد على تكلفة المنتج (سواء محلياً أو وارداً) وهامش التوزيع، لكن أي تعديل في السعر يمرّ عبر قرارات سياسية ووزارية تهدف لموازنة حماية المستهلك من جهة وتقليص فاتورة الدعم من جهة أخرى. في السنوات الأخيرة ظهرت دراسات رسمية تقترح استهداف الدعم أو تحريره جزئياً (مثلاً للشركات والوافدين) بدلًا من الدعم العام.
عمليات الإصلاح الأخيرة شملت تحرير أسعار بعض أنواع الوقود (مثل الديزل) ما قدّم وفورات ملموسة للميزانية (تُقدر بعشرات الملايين من الدنانير سنوياً)، بينما لا تزال الحكومة تدرس آليات أكثر دقة لتحويل الدعم إلى آليات مدفوعة أو مدعومة نقدياً للمواطنين.
وفي سبتمبر 2024، أوردت صحيفة “القبس” على موقعها الإلكتروني نقلاً عن “مصدر حكومي”، لم تذكر اسمه، أن الكويت تتجه لزيادة أسعار البنزين على “الوافدين فقط” حسب سعر السوق العالمي. وأوضحت الصحيفة حينذاك أن “الزيادة لن تشمل المواطنين وستكون على الوافدين فقط، وستقر الحكومة دعماً مالياً للمواطنين نظير استهلاك الوقود لعدم تحمل أي زيادة في السعر”.
سلطنة عُمان
تُحدد الحكومة أسعار الوقود على أساس شهري، ويشمل الدعم جميع العمانيين المستوفين للمعايير، وهم من تجاوزوا 18 عاماً ويملكون مركبة أو قارباً ولا يتجاوز دخلهم الشهري 950 ريالاً عمانياً. يقتصر الدعم على بنزين 91 ويُفعَّل عند وصول سعره إلى 180 بيسة أو أكثر. يستفيد المستحقون من 400 لتر شهرياً بسعر 180 بيسة للتر، ويتم الحصول على الدعم عبر بطاقة تصدرها شركة تسويق الوقود المختارة مسبقاً. وتم البدء بنظام الدعم الوطني منذ مطلع عام 2018.
قطر
بدأت شركة “قطر للطاقة” آلية التسعير الشهرية لأسعار الوقود منذ عام 2016، وتقوم على مراجعة الأسعار العالمية للنفط الخام، وتكاليف النقل والتكرير ودراسة الأوضاع الاقتصادية للمواطنين والمقيمين. في نهاية كل شهر، تُعلن الشركة الأسعار التي ستطبَّق في الشهر التالي.
البحرين
تُعدَّل أسعار البنزين في البحرين وفق الأسعار العالمية، مع توجّه لتحويل الدعم إلى مدفوعات نقدية مباشرة عبر برنامج “الحساب المواطن”، بهدف توحيد منظومة الدعم وضمان وصوله لمستحقيه.
الأردن
تتولى لجنة تسعير المشتقات البترولية بوزارة الطاقة والثروة المعدنية تحديد أسعار الوقود شهرياً، استناداً إلى الأسعار العالمية للنفط ومشتقاته خلال الشهر السابق، والتكاليف المحلية مثل النقل والتخزين والتوزيع، والضرائب والرسوم التي تختلف حسب نوع الوقود. وتُراجع الأسعار شهرياً وتُعلن في مطلع كل شهر.
ما الدول التي تقدم أكبر دعم للوقود الأحفوري؟
يُقصد بكلمة الدعم هنا “التكلفة الذي تتحملها الحكومة أو جهة ما لتقليل تكلفة الخدمات، أو إنتاج السلع المقدمة للجمهور بحيث تبقى أسعارها منخفضة”، بمعنى آخر، هي مدفوعات تهدف إلى جعل الوقود الأحفوري أرخص.
يمكن أن تذهب هذه المدفوعات إما إلى منتجي الوقود الأحفوري ويُسمّى دعم الإنتاج، أو إلى المستهلكين ليتمكنوا من شراء الوقود بأسعار أقل من السوق ويُسمّى دعم الاستهلاك.
أورد موقع “أور وورلد إن داتا” (Our World in Data) في يناير 2025، أن الدول التي تقدم أكبر قدر من الدعم هي الدول الكبيرة المنتجة للوقود الأحفوري. وتُنفق الدول الكبرى المنتجة للنفط، مثل السعودية وتركمانستان وليبيا والجزائر، أكثر من 500 دولار للفرد أحياناً وأحياناً أكثر من ألف دولار لدعم إنتاج الوقود الأحفوري. ويمكن أن يمثل هذا الدعم أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض هذه الدول.
أما الدول في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وشرق آسيا عادةً ما تقدم أقل من 100 دولار للفرد، أما في أفريقيا وجنوب آسيا، فيقل الدعم عن 20 دولاراً للفرد، وأحياناً يقترب من الصفر، حسب المصدر ذاته.
ما حجم الدعم الإجمالي للوقود حول العالم؟
وفق أخر بيانات عالمية منشورة في أغسطس 2023 من صندوق النقد الدولي، بلغ إجمالي دعم الوقود الأحفوري عالمياً 7 تريليونات دولار في 2022، أي ما يعادل 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
والـ7 تريليونات هنا ليست مجرد إنفاق حكومي مباشر عند المضخة، بل تغطي فئتين رئيسيتين حسب منهجية الصندوق، الأولى، دعم صريح: أي فروق يدفعها/ تتحملها الخزائن أو سياسات تسعير مباشرة، والثاني: دعم ضمني/تكاليف غير مُحتسبة، خصوصاً تكلفة الانبعاثات الكربونية والآثار الصحية للتلوث.
كما تختلف مستويات الدعم التي تتلقاها شركات الوقود الأحفوري من الجهات الحكومية، من دولة إلى أخرى، إذ تقدم بعض الدول إعانات أكبر من غيرها، وبلغت قيمة دعم الوقود الأحفوري في دول مجموعة العشرين نحو 290 مليار دولار، وفق موقع “وورلد بوبليشن ريفيو” (World Population Review).
وتقدم الصين نحو 30 مليار دولار من دعم الوقود الأحفوري لعدد من الشركات، وتُعد على نطاق واسع صاحبة أكبر دعم في العالم الصناعي. كما تقدم السعودية دعماً سنوياً كبيراً يُقدّر بنحو 28.7 مليار دولار. أما روسيا، وهي من أكبر منتجي النفط في العالم، فتقدم ما يقارب 24 مليار دولار سنوياً لدعم شركات الوقود الأحفوري، حسب “وورلد بوبليشن ريفيو”.
لماذا تتراجع عدة دول عن دعم الوقود حالياً؟
منذ 2022 شهدت دول كثيرة تراجعاً ملموساً في مستوى دعم الوقود نتيجة تلاقي عوامل اقتصادية وسياسية متعددة:
السبب الأول، كان هبوط أسعار الطاقة العالمية، ما قلّص الفجوة بين السعر المحلي والسعر العالمي وخفّض بذلك فاتورة الدعم المالي للدول؛ انعكس ذلك على تقديرات حجم دعم استهلاك الوقود في الأعوام التي تلت الذروة.
ثانياً، الضغوط المالية على الموازنات العامة دفعت الحكومات إلى إعادة تقييم سياسات الدعم كأداة لخفض العجز. ارتفاع عجز الموازنات بعد موجة الإنفاق الطارئ دفع كثيراً من الدول لإجراءات تقشفية وإصلاحات هيكلية تضمنت تقليص الدعم أو تحويله إلى آليات أكثر استهدافاً لخفض كلفة العبء على الخزينة.
ثالثاً، عامل الضغط السياسي والمؤسسي لعب دوراً محورياً: ضغوط مؤسسات تمويل دولية ومنظمات بيئية وصياغة أولويات سياساتية جديدة دفعت إلى تفضيل سياسات تستهدف المستحقين أو ربط الأسعار بمؤشرات السوق بدلاً من الدعم الشامل، كوسيلة لمواءمة الحوافز مع أهداف الكفاءة والبيئة.
بالنسبة للمنطقة العربية، كان انعكاس هذه التحولات متبايناً تبعاً لوضع كل بلد. فهناك دول منتجة اتجهت إلى آليات ربط أو مراجعة دورية للأسعار للحد من فاتورة الدعم، بينما دول مستوردة بدأت تدريجياً في استهداف الدعم ورفع الأسعار لتحسين أوضاع المالية العامة.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج