رسالة النظام الغذائي الرائد.. قليل من اللحوم كثير من النباتات

عندما كشفت مجموعة من كبار العلماء وخبراء التغذية عن خطة نظام غذائي عالمي قبل عدة سنوات، لم يتوقع كثير من الناس أن تشعل ما قد يكون أحدّ النقاشات بشأن الغذاء في التاريخ الحديث. بدت توصيتهم الأساسية بريئة: لكي يزدهر كوكب متزايد السكان، ينبغي على الدول الغنية تناول كميات أقل من اللحوم ومزيد من النباتات.
لكن بعد نشره بفترة وجيزة، أصبح تقرير لجنة ”إيت لانسيت“ (EAT-Lancet) أشبه بعمود تفريغ الصواعق. إذ تعرض المؤلفون لتهديدات، واتهامات بالنخبوية، وصاروا أهدافاً لحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تدعمها صناعة اللحوم. تبنى بعض صانعي السياسات توصياته بينما رفضها آخرون، وخاصة في الولايات المتحدة، واعتبروه محاولة من نهج “الصحوة” لجعل موائد الناس خاليةً من اللحوم.
النيجيريون يقبلون على لحوم الطرائد والأطباء قلقون
بدأت الآن الجولة الثانية من هذا النقاش. استناداً إلى بيانات جديدة ومدخلات من خبراء في أكثر من 30 دولة، أصدرت اللجنة نسخة ثانية من تقريرها يوم الجمعة، مؤكدةً على الرسالة نفسها إلى حد كبير: تناول كميات أقل من اللحوم، ومزيد من البقوليات والمكسرات والخضراوات- خاصة إذا كنت تعيش في العالم الغني.
يمكن أن يمنع هذا التحول حوالي 15 مليون وفاة مبكرة سنوياً على مستوى العالم، ويخفض انبعاثات المزارع بنسبة 15%. بيّن والتر ويليت، أستاذ علم الأوبئة والتغذية بجامعة هارفرد والرئيس المشارك للجنة: “بتحسين الأنظمة الغذائية، سنُحسّن البيئة… هناك عنصر من الإلحاح هنا لم يتوقف عن النمو منذ آخر مرة“.
ما هو الرابط مع تغير المناخ؟
تُمثل النظم الغذائية حوالي ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، مدفوعةً بشكل كبير بتربية الحيوانات، وهي مصدر رئيسي للميثان كما تُستنزف موارد الأراضي والمياه.
حتى لو تحوّل العالم مبتعداً عن الوقود الأحفوري، فإن الغذاء وحده قد يدفع درجات الحرارة إلى ما يتجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية التي يجب عدم تخطيها للحد من الاحترار. يقع العبء بشكل غير متناسب على عاتق الأثرياء: إذ إن أغنى 30% من سكان العالم مسؤولون عن أكثر من 70% من الضغوط المتعلقة بالغذاء، وفقاً للتقرير.
يشبه ما يُسمى “النظام الغذائي الصحي الكوكبي” الذي وضعته اللجنة النظام الغذائي المتوسطي وغيره من الأنظمة الغذائية التقليدية حول العالم، مع توصيات تُقدم كنطاقات تسمح بالمرونة، وفقاً لويليت.
أسعار اللحوم العالمية تواصل الارتفاع لمستوى قياسي جديد
لا يُشجع هذا النظام النباتي، بل يدعم ببساطة فكرة أن تكون الأطعمة ذات المصدر الحيواني اختيارية ومعتدلة، وتسترشد بمبدأ “1 + 1”: حصة واحدة من منتجات الألبان ومصدر آخر للبروتين الحيواني يومياً. أضاف ويليت: “هذا النظام يسمح بالتنوع الثقافي والتفضيلات الفردية”.
ستؤثر التغييرات الأكبر على صناعات اللحوم والألبان. ويشير التقرير إلى أنه يجب خفض إنتاج لحوم البقر والماعز والضأن بمقدار الثلث من مستويات عام 2020 حتى عام 2050، ويجب أن تتقلص قطعان الماشية والمجترات الأخرى عالمياً بمقدار الربع تقريباً. ومع ذلك، يُوضح التقرير أن تغيير النظام الغذائي وحده لن يكون كافياً. كما أن الحد من هدر الطعام وزيادة الإنتاجية الزراعية أمران بالغا الأهمية.
أعدت التقرير المحدث (EAT-Lancet 2.0) لجنة ضمَّت خبراء في الثروة الحيوانية والاقتصاد والتغذية والمناخ. خضع التقرير لمراجعة الأقران، ومولته منظمات، منها مؤسسة ”روكفلر“ ومؤسسة ”نوفو نورديسك“.
اهتمام إيجابي واسع
بدأ الاهتمام والإشارة إلى النسخة الأولى من التقرير على نطاق واسع بعد نشره عام 2019، حيث ظهر في أكثر من 600 وثيقة سياسية. وتعهدت مدن مثل ميلانو ولندن وطوكيو بمواءمة مشتريات الأغذية العامة مع توصياته. ورأى صانعو السياسات فيه دليلاً مرجعياً لدمج الاستدامة في الإرشادات الغذائية، كما قال تيم بينتون، الأستاذ بجامعة ليدز وخبير الأمن الغذائي.
مع ذلك، كان طرحه محدوداً. ما يزال استهلاك اللحوم العالمي في ارتفاع، ومبيعات البروتين البديل متعثرة. وقد أدّى الوباء، وغزو روسيا لأوكرانيا، وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى تآكل الرغبة السياسية ورغبة المستهلكين في الاستدامة.
رسوم ترمب قد توجه ضربة بمليار دولار لمصدري لحوم البقر في البرازيل
في الوقت نفسه، تغيَّر المناخ السياسي مع صعود الشعبوية اليمينية. لقد غذّى “المانوسفير” والذكورية المتأثرة بشعار ”لنعد لأميركا عظمتها” رواج النظام الغذائي المعتمد على اللحوم.
قال بنتون: “إن النفوذ السياسي لقطاع الثروة الحيوانية وهذا النوع من الشعبوية اليمينية التي يرفض معتنقوها أن يقول لهم أحد لا تتناولوا اللحوم، كل هذه الأمور مجتمعة تعني أن تقرير (EAT-Lancet) كان هدفاً جذاباً لما نسميه الآن أجندة مكافحة (اليقظة)”.
بالنسبة لبعض الشخصيات البارزة في التقرير، كان رد الفعل شخصانياً. فقد وُصفت غونهيلد ستوردالين، الطبيبة التي شاركت في تأسيس مؤسسة (EAT) ونسقت تمويل التقرير، عبر الإنترنت بأنها جزء من “نخبة دافوس“. ووجد تحقيق لاحقاً أدلة على جهود مدبرة لتشويه سمعة الدراسة.
ماذا فعل المؤثرون المضللون؟
استخدمت منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة، التي تضخمت من خلال شبكة من “المؤثرين المضللين” المرتبطين بصناعة الثروة الحيوانية، الوسم (#yes2meat)، وفقاً لمؤسسة ”تشينجينغ ماركتس“ (Changing Markets Foundation) غير الربحية، التي حذرت الأسبوع الماضي من حملة جديدة ضد التقرير المحدث.
يحاول التقرير الجديد الرد على بعض الانتقادات السابقة، بما في ذلك الادعاءات بأن تركيزه كان غربياً جداً وتجاهل الأنظمة الغذائية المحلية أو القدرة على تحمل التكاليف. هذه المرة، ينصبّ التركيز على أنظمة غذائية “عادلة”: فنصف سكان العالم تقريباً لا يحصلون على أنظمة غذائية صحية بأسعار معقولة أو أجور عادلة أو بيئات آمنة.
إنفوغراف: كم ينفق الفرد في الدول العربية على شراء اللحوم سنوياً؟
تقول اللجنة إنه بينما يتعين على دول الشمال خفض استهلاكها بشكل حاد، قد تحتاج أجزاء من دول الجنوب إلى زيادة استهلاك البروتين الحيواني لمعالجة سوء التغذية- وإن لم يصل إلى المستويات التي تشهدها الدول الغنية.
يشير التقرير إلى أن تحقيق هذه التغييرات سيتطلب سياسات جديدة، من إصلاحات الدعم إلى الضرائب، لضمان توفر الغذاء الصحي بأسعار معقولة وفي متناول الجميع.
قالت ستوردالين إن اللجنة ستنقل التقرير المحدث في جولة عالمية لتسليط الضوء على تأثيره في مختلف المناطق والثقافات. كما أنها ستستضيف حوارات مع جميع الأطراف، من المزارعين والطهاة إلى المستهلكين والأطباء.
أضافت: “نحن نجمع جميع أصحاب المصلحة الرئيسيين على طاولة واحدة من أجل حوارات جريئة، والسعي الجاد لتغيير العقليات”.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج