تشير عدة مؤشرات، مستندة إلى تقارير إعلامية إسرائيلية وغربية وتحليلات صادرة عن مراكز أبحاث دولية، إلى أن خطة الحكومة الإسرائيلية لاحتلال قطاع غزة تمثل نقطة تحول نوعية في طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إذ تتجاوز هذه الخطة الخطاب الرسمي الذي يركز على “القضاء على حركة حماس” لتتخذ شكل مشروع أوسع يستهدف إعادة تشكيل الواقع الديموجرافي في القطاع عبر ممارسات ترتقي إلى مستوى التطهير العرقي، الإبادة الجماعية، والتهجير القسري للسكان الفلسطينيين، في إطار مخطط يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.
يدعم هذا التحليل مجموعة من المعطيات الميدانية والسياسية؛ حيث تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية إلى أن العمليات العسكرية المستمرة والحصار الممنهج قد خلقا ظروفًا معيشية غير قابلة للاستمرار، أدت إلى نزوح غالبية السكان، وتدمير واسع للبنية التحتية الحيوية، مع استهداف مباشر للمناطق السكنية والمرافق المدنية مثل المستشفيات ومحطات الكهرباء والمياه. وقد وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) تشريد ما يقارب 1.9 مليون شخص، أي ما يعادل تقريبًا كامل سكان القطاع، في مشهد وصفت الأمم المتحدة بأنه “الأكبر والأشد معاناة إنسانية على مستوى العالم”.
في الوقت الذي يدافع فيه المسؤولون الإسرائيليون عن سقوط المدنيين باعتباره “أمرًا لا مفر منه” في مواجهة “عدو متحصن”، تكشف الوقائع الميدانية، من استهداف الأطفال بالقناصة، والقصف المستمر للبنية التحتية المدنية، وفرض الحصار والتجويع، إلى تصريحات رسمية متكررة، أن الحرب لا تستهدف حماس فقط، بل تستهدف بشكل شامل كافة سكان غزة ، وقد خلصت إلى ذلك مؤسسات دولية ومنظمات حقوقية متعددة، كما أشار مدير جهاز الشاباك السابق، يورام كوهين، إلى أن فكرة القضاء على حماس عبر القوة العسكرية هي “وهم”، مؤكدًا أن استمرار معاناة المدنيين يفقد إسرائيل أي تفوق أخلاقي ويجعلها بلا هدف استراتيجي واضح.
من جهة أخرى، خلص تقرير مؤسسة “بتسيلم” الحقوقية الإسرائيلية غير الحكومية، في تقريرها المعنون “Our Genocide”، إلى أن إسرائيل تنفذ إبادة جماعية ممنهجة ضد الفلسطينيين في غزة من خلال القتل الجماعي، التهجير القسري، التجويع، وتدمير البنية التحتية الأساسية والخدمات الحيوية، إلى جانب استهداف الهوية الثقافية والاجتماعية الفلسطينية، وهو ما يمثل، وفقًا للتقرير، تطبيقًا فعليًا لتعريف الإبادة الجماعية وفقًا للقانون الدولي.
وبغض النظر عن توصيف ما يجري بالإبادة الجماعية، فإن حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمجتمع الفلسطيني واضح وجلي وفقًا لتحليلات الأقمار الصناعية التي نشرتها وسائل إعلام موثوقة مثل “الإيكونوميست” و”فايننشال تايمز”، فقد تضرر أو دُمر ما لا يقل عن 85% من المباني، و90% من المنازل في غزة، إلى جانب تدمير جميع الجامعات الاثنتي عشرة، و80% من المدارس والمساجد، وعدد كبير من الكنائس والمتاحف والمكتبات، فيما لم يبق أي مستشفى يعمل بكامل طاقته، هذه المعطيات تضع إسرائيل في موقع أخلاقي لا يمكن الدفاع عنه، ويزيد من عزلة إسرائيل على المستوى الدولي، وسط تصاعد الضغوط الاقتصادية واحتمالات تصعيد العنف مستقبلاً.
في هذا السياق، من الضروري إدراك أن ما قد يبدو مكسبًا قصير المدى لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحكومته قد يتحول إلى خسارة استراتيجية طويلة الأمد لإسرائيل، حيث تتعرض مكانتها الدولية للتدهور من جراء ممارساتها الاجراميه في غزة التي حولتها أ لى منطقة منكوبة، مع مسؤولية مباشرة عن قمع المدنيين وتجويعهم، وتشير التقديرات إلى أن الأوضاع الإنسانية في القطاع مرشحة للتدهور بشكل يفوق قدرة الحلفاء التقليديين لإسرائيل على تحملها، وبينما لا يمكن التغاضي عن الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين، فإن الرد الإسرائيلي المفرط والعنيف، الذي يتضمن عمليات عسكرية ممنهجة وتجويعًا جماعيًا، يستوجب إدانة دولية أوسع، خصوصًا مع توقعات بتصاعد حدته.
على الصعيد العسكري، تظهر مؤشرات على وجود انقسام في الرأي داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. فقد حذر رئيس الأركان، الجنرال إيال زمير، من أن الاحتلال الكامل لغزة سيضع الجيش الإسرائيلي في مأزق ميداني طويل الأمد، يتطلب نشر أربعة إلى خمسة ألوية، مما قد يؤدي إلى استنزاف القوات النظامية والاحتياطية في وقت تحتاج فيه إسرائيل إلى تركيز قواتها استعدادًا لأي تصعيد محتمل في الجبهات الأخرى في لبنان وسوريا وإيران ، وتتفق تقديرات أمنية متعددة مع هذا التحليل، محذرة من احتمال وقوع إسرائيل في “مستنقع عسكري” مشابه للتجارب الأمريكية في العراق وأفغانستان.
على المستوى السياسي، يواصل نتنياهو المضي قدمًا في خطته، مستندًا إلى دعم أمريكي غير مشروط يُنظر إليه في تل أبيب كمظلة سياسية ودبلوماسية تتيح تجاهل الضغوط الدولية والاستمرار في فرض وقائع جديدة على الأرض، رغم المعارضة الإقليمية والأوروبية والانتقادات الأممية.
ومن منظور العلاقات الإقليمية، تشير تقديرات إسرائيلية إلى أن المضي في احتلال غزة سيضر بآفاق توسيع “اتفاقيات أبراهام” ومسار التطبيع مع دول المنطقة، في ظل تصاعد الضغوط الشعبية والرسمية الرافضة لهذه الخطوة، مما قد يؤدي إلى تجميد أو إبطاء عمليات التطبيع، ويحد من قدرة القوى الدولية على بناء تحالفات إقليمية واسعة تهدف الي احتواء النفوذ الإيراني في المنطقه
ففي الإعلام الإسرائيلي، تناولت صحيفتا “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت” هذه السياسات محذرتين من عزلة دولية متزايدة وتصاعد المقاومة الفلسطينية، مما يجعل تحقيق الأهداف المعلنة، سواء كانت القضاء على حماس أو فرض تغيير ديموجرافي دائم، أكثر صعوبة وربما مستحيلة على المدى البعيد، كما تحذر تحليلات إسرائيليه من أن الخطاب السياسي الإسرائيلي، الذي يبرر الحصار والتجويع، عزز في الرأي العام الدولي قناعة متزايدة بأن ما يحدث في غزة يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية.
على صعيد آخر، تواصل الحكومة الإسرائيلية سياسة توسيع المستوطنات وشرعنة بؤر استيطانية غير قانونية، إلى جانب عمليات هدم المنازل الفلسطينية في الضفة الغربية، وحرمان الفلسطينيين من تراخيص البناء وتضييق حرية تنقلهم، في مقابل توفير حماية كاملة ودعم مالي وسياسي للمستوطنين ، ولا يمكن تفسير هذه الممارسات بمنطق أمني فقط، بل تعكس تصورًا أيديولوجيًا يرى الأرض حقًا حصريًا لليهود، والفلسطينيين وجودًا قابلاً للإزاحة أو التهميش ، وتحمل سياسات نتنياهو طابع العقاب الجماعي، يتماشي مع خطاب ديني وقومي متشدد يصنف الفلسطينيين ككتلة معادية، ويتعامل معهم خارج إطار الحقوق الإنسانية، مما يعمق الإشكالية الأخلاقية المرتبطة باستخدام تفسيرات دينية متطرفه لتبرير الهيمنة وإعادة إنتاج الظلم.
وتُظهر خطة الاحتلال الإسرائيلي لغزة مشروعًا استراتيجيًا بعيد المدى لإعادة رسم الخريطة السكانية والسياسية بالقوة، بهدف تصفية القضية الفلسطينية، في ظل تحذيرات قانونية وأخلاقية من الداخل والخارج، ومخاطر استنزاف عسكري وسياسي واقتصادي قد تمتد لعقود ، وتأتي ردود الأفعال الإقليمية والدولية، ومنها الصادر من مصر والأردن والسعودية والجامعة العربية، إلى بيانات وزراء خارجية أستراليا وألمانيا وإيطاليا ونيوزيلندا وبريطانيا، وعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، كدليل على تصاعد الرفض الدولي لخطة الاحتلال الإسرائيلي الكامل لغزة.
في التقدير، يجب على حكومة نتنياهو إدراك أن القوة وحدها لن توفر السلام والأمن الدائمين لإسرائيل، وأن الحل السياسي الشامل القائم على مبدأ حل الدولتين هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للحفاظ على أمن إسرائيل، إنهاء دورة العنف، وتحقيق مستقبل مستقر ومزدهر للمنطقة.
السفير عمرو حلمي
نقلاً عن : تحيا مصر
- استجابة لقرار “الوزراء”.. مجموعة العربي تُخفض أسعار منتجاتها - 9 أغسطس، 2025
- وفاة عامل نظافة أثناء أداء عمله في الشرقية - 9 أغسطس، 2025
- الشهادة الإعدادية 2026.. ما حقيقة تأجيل قرار أعمال السنة؟ - 9 أغسطس، 2025
لا تعليق