في مشهد يعكس التلاحم الفريد بين أبناء الوطن الواحد، تحل هذه الأيام نفحات إيمانية خاصة على المصريين، حيث يجتمع المسلمون والمسيحيون في رحلة صيام روحية، مع تزامن شهر رمضان المبارك والصوم الكبير للأقباط الأرثوذكس، في أجواء تحمل معاني الزهد والتقرب إلى الله، كلٌ وفقًا لعقيدته وتقاليده الدينية.
تتحول البيوت المصرية إلى مساحات روحية مشتركة، حيث يلتزم المسلمون بالصيام من الفجر وحتى المغرب، فيما يستمر الصوم الكبير للمسيحيين بنظامه النباتي الصارم حتى احتفالات عيد القيامة. ورغم اختلاف تفاصيل الصيام، فإن المشهد العام يظل متشابهًا، حيث تلتف العائلات حول موائد الإفطار والسحور في أجواء تعبق بالإيمان والتقوى، ويتبادل الجيران والأصدقاء التهاني، ويُرسل المسلمون التمر والمشروبات الرمضانية لجيرانهم الأقباط، الذين يردون بدورهم بالمخبوزات الصياميّة والمأكولات النباتية، وكأن الصيام يجمع القلوب كما يجمع الأبدان.
شوارع مصر.. روحانية خاصة في الشهر الكريم والصوم المقدس
تتناغم مظاهر الصيام في الشوارع المصرية، حيث تكتسي المدن بالأجواء الروحانية، فبينما تعلو مآذن المساجد بصوت الأذان والتواشيح الرمضانية، تصدح الكنائس بالتسابيح القبطية التي تسبق أسبوع الآلام. كما تشهد الساحات انتشار موائد الرحمن، التي لا تقتصر على المسلمين فقط، بل يشارك في إعدادها وتقديمها أقباط متطوعون، في لفتة تعبر عن التلاحم المصري الأصيل، فيما تمتد أيادي الخير لتقديم المساعدات الغذائية والوجبات للصائمين، بغض النظر عن ديانتهم، في مشهد يرسخ قيم المحبة والتآخي.
صلاة التراويح والقداسات القبطية
يمثل الصوم في العقيدتين الإسلامية والمسيحية رحلة روحية تسمو بالإنسان فوق احتياجاته الجسدية، فكما يحرص المسلمون على أداء صلاة التراويح في المساجد بعد الإفطار، ينهمك المسيحيون في القداسات اليومية وصلوات التسابيح، استعدادًا لعيد القيامة المجيد. وبينما يحرص المسلمون على قراءة القرآن وختمه خلال رمضان، يعيش الأقباط أجواء القراءات الإنجيلية والتأملات الروحية التي تعكس معاني التضحية والتوبة والتجديد الروحي.
تاريخ من الوحدة الروحية بين المسلمين والمسيحيين
لم يكن تزامن الصيام بين المسلمين والمسيحيين مجرد مصادفة زمنية، بل هو انعكاس للتقارب الروحي بين الديانتين، فالصيام في جوهره دعوة إلى التقشف والتقرب إلى الله والامتناع عن الشهوات، وهو ما يتجلى في كل بيت مصري، حيث يتبادل المسلمون والمسيحيون الأحاديث حول روحانيات الصوم، ويتشاركون الطقوس الاجتماعية التي تعكس ثقافة التسامح والتعايش.
وفي هذا السياق، هنأ القس بطرس فؤاد، كاهن كنيسة الكوكبان الأنبا بيشوى والأنبا كاراس بمدينة النور وعضو مجلس كنائس مصر، الشعب المصري بمناسبة حلول زمن الصوم، قائلًا: “كل صوم وأنتم بخير، هذه السنة مميزة، إذ يتزامن الصوم الكبير وصوم رمضان، وهي فرصة مباركة لنا جميعًا لرفع قلوبنا إلى الله، ولتلاقي صلواتنا وأصوامنا معًا، طلبًا لرحمته وسلامه”.
وأضاف القس بطرس، في تصريحات خاصة لـ”اليوم السابع”، أن هذه الأيام المقدسة تمنح الجميع فرصة إلى التوبة، والتقرب إلى الله بالصوم والصلاة، واختتم حديثه بالدعاء قائلًا: “نسأل الله أن يمنح العالم السلام والطمأنينة، وأن يغفر لنا ذلاتنا وخطايانا، وأن يتقبل صومنا جميعًا، فيكون صومًا مقبولًا بحسب مشيئته”.
“مصر الصائمة”.. تجسيد عملي لوحدة الوطن
في هذه المباركة، تصبح مصر “أرضًا صائمة بامتياز”، حيث تتلاقى الأرواح في معاني الصبر، الأجواء والطهارة، والتضرع لله، ويظهر التلاحم المجتمعي في أبهى صوره، فبين موائد الإفطار الرمضانية، وأصوام الأربعين المقدسة، وبين صوت الآذان ودقات أجراس الكنائس، يبقى الصوم لغة إيمانية واحدة، تتجسد في وحدة وطنية تتحدى الزمن والاختلافات، لتؤكد أن مصر دائمًا وأبدًا وطنٌ يجمع الجميع تحت سماء واحدة وقلب واحد.
نقلاً عن : اليوم السابع
لا تعليق