في كل عام، تتحول شوارع مصر إلى لوحة نابضة بالألوان والأضواء والأصوات، تعلن عن فرحة غامرة احتفالا بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كتجسيد حي لحب فطري توارثته الأجيال، واختلط بتراب الأرض المصرية، ليكتب قصةً استثنائية من الإيمان والبهجة.
بداية تاريخية من العصر الفاطمي
تعود جذور الاحتفال المنظم بالمولد النبوي إلى الدولة الفاطمية، وتحديداً مع دخول المعز لدين الله مصر عام 969 ميلادية. أراد الفاطميون كسب ود المصريين المعروفين بحبهم لآل البيت، فجعلوا من الموالد أحد أهم أدوات التقرب السياسي والاجتماعي.
لم يكن المولد النبوي وحده هو المُحتفى به، بل كانت الدولة تقيم احتفالاتٍ كبيرةً بموالد أهل البيت، مثل مولد الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء والإمام الحسين، وكانت هذه الاحتفالات تتميز بمواكبَ ضخمة، وتوزيع للحلوى، وقراءة للسيرة النبوية، مما أضفى عليها طابعاً شعبياً جذب الجماهير.
تطور الاحتفال عبر العصور
لم يتوقف الاحتفال بالمولد النبوي بزوال الدولة الفاطمية، بل تبناه الأيوبيون ومن بعدهم المماليك، الذين بالغوا في إظهار البذخ والعظمة خلال الاحتفالات، حيث ينقل المؤرخون أن الملك المظفر كان ينفق مبالغَ طائلةً على الحلوى والمواكب، حتى إن السلطان قايتباي أنشأ خيمةً خاصةً للمولد بلغت تكلفتها آلاف الدنانير الذهبية، بل إن نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر أدرك أهمية هذه المناسبة للمصريين، فدعمها مادياً وعينياً في محاولة لكسب مشاعرهم.
قصة حلوى المولد
لا يمكن فصل حلوى المولد عن هوية الاحتفال بالمولد النبوي في مصر، وتعود أصولها إلى العصر الفاطمي، حيث كانت تُصنع على شكل عرائسَ وخيول من السكر وتُوزع على العامة كرمزٍ للبهجة والبركة.، وتطورت الحلوى لتصبح تراثاً قائماً بذاته، يشمل الفولية والحمصية والسمسمية والملبن، فيما وترتبط العروسة والحصان بذكريات الطفولة لدى كل مصري، حيث كانت تهدى للبنات والأولاد كنوع من المشاركة في الفرحة.
حب جارف يتجلى في الشوارع
ما يميز الاحتفالات في مصر هو الطابع الشعبي، فقبل أيام من الموعد، تبدأ الطرق الصوفية في إحياء الليالي الدينية في المساجد والسرادقات، خاصة حول أضرحة آل البيت كمسجد السيدة زينب والإمام الحسين، وتتداخل أصوات الإنشاد الديني مع رائح البخور، وتمتزج حلقات الذكر بفرق الطبول والمزمار، في مشهد يصعب وصفه. تخرج الأسر بأكملها إلى الشوارع، وترتدي الملابس الجديدة، وتتبادل أطباق الحلوى، في تعبيرٍ صادقٍ عن فرحةٍ جماعيةٍ لا تعرف الانقسام.
خلافٌ فقهيٌ لا يطفئ الفرحة
على الرغم من وجود خلافاتٍ فقهية حول شرعية الاحتفال، حيث يرفضه بعض التيارات السلفية بينما يراه آخرون تعبيراً مشروعاً عن المحبة، إلا أن المصريين تجاوزوا هذه الجدالات، لقد تحول المولد من مجرد مناسبة دينية إلى جزء من نسيجهم الثقافي والاجتماعي، وقصة حبٍّ متجددةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم. إنه اليوم الذي تتجلى فيه روح مصر المتسامحة والمحبة، لترسل رسالةً إلى العالم بأن الفرح بالإيمان هو أعظم أنواع الفرح على الإطلاق.
نقلاً عن : تحيا مصر