ياسر حمدي يكتب: الفريق «حسن أبو سعدة» وفرح «مسعد» وحرب أكتوبر المجيد.. حكايات من ذاكرة البطولات

ياسر حمدي يكتب: الفريق «حسن أبو سعدة» وفرح «مسعد» وحرب أكتوبر المجيد.. حكايات من ذاكرة البطولات

ونحن نعيش ذكرى الانتصار العظيم في 6 أكتوبر 1973، حكى لي صديق عزيز هذه القصة الرائعة والخالدة في ذاكرة البطولات الخارقة التي تأثرت بها.. حكاية بطولة أحد أبناء الوطن الغاليين، ليؤكد لي ما أنشره دائمًا في مقالاتي السنوية إحتفالًا بذكرى العبور الكبير، أن بطل حرب أكتوبر المجيد كان المقاتل المصري العظيم.

القصة هي: في شهر مايو عام 1974 دقت أجراس مطرانية المنيا، إيذانًا باستكمال إكليل عرس «مسعد حنا عبد المسيح» من قرية تله، على العروس مريم جرجس قلادة؛ حيث جلس العريس أمام المذبح مع عروسه يرتدي جلبابًا أبيض ويلف رقبته بشال ناصع البياض.
كان العريس نحيف القوام جاحظ العينين طويل الوجه مع شارب خفيف أسفل أنفه المدبب، كان زائغ النظرات، ينقل عينيه سريعًا في قلق بين المدعوين وباب القاعة الرئيسية، ويرسم على وجهه إبتسامة باهتة.. لاحظت العروس ما به فسألته عن سبب قلقه، ابتسم وقال: لا شئ، وراح يتمتم لنفسه: ربما لن يأتي، ربما لم يصله التليغراف، ربما كانت مشغولياته تمنعه.

صعد القسيس على المسرح المقام أمام المذبح ليبدأ إجراءات الإكليل، بدأ يتلو صلواته وسط سكون المدعوين، وفجأة علت همهمة بين الحضور بدأت وتيرتها ترتفع، استرعى ذلك نظر القسيس الذي أوقف الصلوات، دخلت مجموعة من أمناء الشرطة داخل القاعة، يتبعها مأمور قسم المنيا، بدأ الجميع يتوجس خيفة، لأنهم قرويون بسطاء، لم يروا هذا المأمور إلا في المناسبات القومية ويوم وقفة رمضان والعيد.. أيكون معزومًا؟ وفي فرح من؟ مسعد إبن فريال؟.
ارتسمت على وجه «مسعد» بعض الطمأنينة، تقدم المأمور وجلس في الصف الأول، وفجأة بدأت الهمهمة تتزايد، ثم بدأ المدعون يقفون للزائر الجديد، ويطلقون الزغاريد، وتلتهب أكفهم بالتصفيق! لم يكن الزائر سوى اللواء أ.ح «حسن أبو سعدة»، قائد الفرقة الثانية مشاة، والتي كانت طليعة الجيش الذي أقتحم خط بارليف، وما أن رآه «مسعد» حتى سحب يده من يد القسيس وقفز من فوق المسرح مهرولًا نحو الزائر الجديد، تعانقا طويلًا، صاح مسعد والدموع تختلط بكلماته «كنت عارف إنك مش هاتكسر بخاطري وهتحضر جوازي رغم مسئولياتك ومشاغلك»، ربت اللواء على كتف مسعد وقال «الوعد يا مسعد».
اصطحب مسعد اللواء حسن إلى الصف الأول وجلس بجانبه ناسيًا العروس والإكليل حتى نبهه القسيس، صعد للمسرح وعيناه لم تزل معلقة على اللواء، وبمجرد أن انتهى من إتمام الإكليل صعد اللواء أبو سعدة إلى خشبة المسرح، وأمسك بالمايك قائلًا: «لقد جئت من مسافة 650 كيلو متر لأحضر فرح مسعد، وفاء لوعد قطعته على نفسي أمامه».
وزاد أبو سعدة كلامه: هذا الرجل الذي يجلس أمامكم ليس رجلًا عاديًا؛ إن بطولاته تدون في كتب؛ لن أنسى أول مرة رأيته فيها، كان أشبه بالطفل الذي ضاع من أمه في الزحام، يخاف من كل واحد وكل شيء، ينظر لما حوله بتوجس، فهو لم يخرج من حدود قريته وتم تجنيده.. وأخذوه من الدار إلى النار، أشفقت عليه، ضممته إلى المجموعة الخاصة بي، كنت أراه ينظر للدبابة في دهشة بالغة وأحيانًا كنت أراه يدور حولها ليكتشف هذا الكائن الأسطوري.
ذات يوم دخل مكتبي، وطلب أن ينضم لفرقة الآر بي جي التي تنظمها القيادة، قلت له أن هذه الفرقة قاصرة على المتعلمين، وأنت لا تجيد القراءة ولا الكتابة، فجأة مال على يدي ليقبلها حتي أوافق، رأيت في عينيه إصرارًا غريبًا، قبلت على مضض وعلى مسئوليتي.. المفاجأة أنه كان الأول دائمًا على جميع أفراد الفرقة.
ثم بدأت الحرب العظيمة وعبرنا القناة، وكان مسعد في مجموعة القناصة؛ هاجمنا اللواء 190 مدرع بقيادة «عساف ياجوري»، تصدت له كتيبة الآر بي جيه وعلى رأسها مسعد، كان كل صاروخ على كتفه يساوي دبابة، لم يخطئ مرة واحدة، نفدت ذخيرته الصاروخية، وفجأة لمح دبابة تهرب من ميدان المعركة وتكاد أن تفلت، فجأة ينطلق خلفها مسعد يسابق الريح، يقفز علي مؤخرتها كالنمر الكاسر، يفتح باب برجها ويلقي داخله بقنبلة يدوية، ثم يقفز بسرعة رهيبة، لتتحول الدبابة إلى كتلة من النيران.
ثم تأتي مجموعة من العربات المجنزرة ويتم التعامل معها، تتعطل عربة ويهبط منها ضابطان يجريان ناحية الأحراش، ينطلق خلفهما مسعد دون إنتظار أي أوامر بالاشتباك، يغيب لدقائق ثم يعود ووجهه مضرجًا بالدماء وهو يسحب أحد الضابطين من قدمه ليلقيه أمام زملائه، ثم يعاود الدخول للأحراش مرة أخرى كنمر يعرف جيدًا بقايا فريسته، يتأخر حتى يأكلني القلق عليه فادفع بمجموعة من الجنود للمساعدة.
وفجأة يخرج مسعد بنفس الصورة ساحبًا الضابط الآخر من قدمه؛ هذه المرة يسقط مغشيًا عليه، نقلته للمستشفي، لأفاجأ في اليوم التالي بمسعد يقف أمامي وقد غطى وجهه وزراعه بالضمادات، عاد وهو يحمل على كتفه مجموعة جديدة من الآر بي جيه؛ نلتحم مرة ثانية مع تبة حصينة.. ويكون مسعد أول المقتحمين!!.
ثم تنتهي الحرب ويسلم مسعد مهماته العسكرية، يتقدم مني على استحياء ويعانقني ثم يقول لي «عايز منك طلب، أنا هاتجوز قريب، ممكن تشرفني في الفرح»، ربت على كتفه وقلت له «أعدك يا مسعد»، وإذ يصلني بالأمس تليغرافه، لم أكن أستطيع التخلف عن هذه المناسبة، إعتبرتها واجب قومي وأقل شئ يقدم لهذا البطل.
كانت العروسة تسمع هذا الكلام وتنظر لمسعد بدهشة دون أن تصدق.. أهذا الشاب الخجول يصنع كل هذه البطولات، تهمس أم العروس في أذن ابنتها «ده اللي كنتي مش عايزاه يا بنت الكلب»!! ثم يستأذن اللواء حسن في الإنصراف ويصر مسعد أن يترك عروسه ويوصله لمحطة القطار، وقفا سويًا يستعيدان ذكريات الحرب، ثم أقبل القطار فأخرج اللواء أبو سعدة مظروفًا دسه في جيب مسعد، ثم قال له وهو يودعه «عايزك راجل يلا في بيتك زي ما كنت في الحرب»!! يضرب مسعد على صدره بفخر «إحنا أسود يا فندم».
ويعود مسعد للمطرانية ليستكمل فرحه، ليفاجأ بالمطارنة والقساوسة قد اصطفوا في إستقباله كحرس شرف، هذا يسلم عليه وذاك يقبله وأخر يعانقه، وبعد تسعة أشهر يرزق مسعد بمولود ذكر، يصر على أن يسميه «حسن» رغم اعتراض الجميع، ولكن من كان يستطيع أن يعارض أسدًا بمخالب وأنياب؟!!.

نقلاً عن: موقع تحيا مصر

أحمد ناجي محرر الأخبار العاجلة بموقع خليج فايف