استعراض التجارب العربية والعالمية في انطلاق أعمال “المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي”

استعراض التجارب العربية والعالمية في انطلاق أعمال “المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي”

 

◄ الضوياني: الوثائق بكافة أنواعها مهمة لحفظ ذاكرة الوطن والدفاع عن حقوقه

◄ التجربة العمانية في التأريخ الشفوي أضافت رصيدا متنوعا للذاكرة الوطنية

◄ بثينة شعبان: الذاكرة الحيَّة جزء أساسي من الهوية التاريخية للشعوب

◄ وجيه: المجتمعات اعتمدت قديما على الحكي للحفاظ على التراث اللغوي والثقافي

◄ المناصيري: العرب لهم خصوصيتهم الثقافية في سرد الأحداث وتناقلها

◄ الدرمكية: الاستثمار في التراث الثقافي ضروري لتحقيق أهداف التنمية الثقافية

◄ اقتراح تدشين تعاون عربي عالمي لاستدامة اللقاءات العلمية في مجال التأريخ الشفوي

 

 

الرؤية- مدرين المكتومية

رعى معالي السيد سعود بن هلال بن حمد البوسعيدي محافظ مسقط، الإثنين، انطلاق أعمال المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي “المفهوم والتجربة عربيًّا”، والذي تنظمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالتعاون مع مؤسسة وثيقة وطن بالجمهورية العربية السورية؛ إذ تستمر الفعاليات حتى الأربعاء بمشاركة وحضور مؤسسات وهيئات ومراكز وثائقية عربية وعالمية.

ويناقش المؤتمر العديد من الموضوعات والقضايا المتعلقة بالتأريخ الشفوي عبر ثلاثة محاور رئيسية: المحور النظري؛ ويناقش مفهوم التأريخ الشفوي عربيًّا، والمحور العلمي؛ ويناقش التجارب العربية الإقليمية والعالمية  (المنهج والمنتج)، والمحور المستقبلي؛ الذي يناقش آفاق التجربة العربية في التأريخ الشفوي.

ويهدف المؤتمر إلى دراسة إشكالية وتحديات التأريخ الشفوي ضمن خصوصية المجتمعات العربية، وتعميق الوعي بأهمية الوثيقة الشفوية في الكتابة التاريخية العربية المعاصرة، إلى جانب الاطلاع على تجارب التاريخ الشفوي في العالم العربي، وبحث سبل التعاون وتفعيل العمل المشترك في المشاريع والدراسات المتخصصة، إضافة إلى إمكانيات استثمار منهجية التأريخ الشفوي ضمن المناهج الدراسية، وبحث سبل تطوير التجربة العربية في التأريخ الشفوي.

وألقى سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية كلمة أكد فيها حرص هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية على التعريف بالجوانب الحضارية والتاريخية والثقافية والفكريةِ لسلطنة عُمان وتاريخها التليد الذي أنجزه الإنسان العُماني على مر العصور وأضحى سجلاً حافلاً قائماً على تجربة إنسانية عُمانية، امتدت إلى الأجيال الحاضرة، والتي يتوجب استمرارها من خلال بناء أجيال متعاقبة من أبناء عُمان يتسلحون بالعلم والمعرفة ومواكبة التقدم العلمي والحضاري ليبقى الأثر المشرف للعطاء متواصلاً، والإسهامات العلمية تمضي نحو تحقيق مزيدٍ من الإنجازات العلمية والفكرية والتقنية وغيرها من العلوم.

وأضاف: “سعداء بمشاركتكم معنا في المؤتمر الدولي للتاريخ الشفوي الذي تنظمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيةُ بالتعاون والتنسيق مع مؤسسة وثيقة وطن  بالجمهورية العربية السورية في إطار برنامج التعاون التنفيذي وخطة العمل القائمة على التأكيد لأهمية التاريخ الشفوي في الذاكرة الوطنية”.

وتابع الضوياني قائلا: “إن إدراكنا بأهمية الوثائق بكافة أنواعها تؤول في حفظ ذاكرة الوطن والدفاع عن حقوقه وإبراز إنتاج وإبداع المواطنين في ضمان استمرارية مؤسسات المجتمع، وتمكين أفراده من الوقوف والتعرف على كيانات ومقدرات الوطن من خلال ما تقدمه الوثائق من معلومات ومعارف متعددة حول الأنماط المعيشية والأوضاع الاجتماعية والإنجازات الاقتصادية والسياسية وغيرها، وما يحفظ منها سيمكن الأجيال من قراءة الواقع الراهن واستغلال الوثائق في تشجيع البحث العلمي والإبداع الفكري في كافة المعارف العلمية والإنسانية، ولهذا يقودنا الحديث إلى جانب مهم من جوانب التوثيق التاريخي، إنها الوثيقة الشفوية فقد أضحى التاريخ الشفوي يعتمد عليه في كتابة التاريخ ومصدرا من مصادر الذاكرة التي تحظى بمنزلة خاصة من بين مصادر المؤرخ، وزادت خصوصيته في زمننا الراهن لإسهامه في تفسير التاريخ المباشر بوصفه تاريخاً عاشه المؤرخ أو شهوده الرئيسين التي يجب أن تخضع إلى تقنين صارم في النقد التاريخي وإجراء الحوارات وتسجيلها وتدوينها وكتابتها في إطار استعمالها من قبل المؤرخين والباحثين تتبعاً لمسارات التاريخ والتوثيق الذي استند إلى أقوال الشاهدين مما جعل المؤرخين يعتمدون على الرواة والمشاهد العينية للأحداث ومن خلال الرحلات والملاحظات الشخصية والوصفية للأحداث التي عاصروها ،فضلاً عن الاعتماد على مذكراتهم الشخصية”.

وأشار رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية إلى أنه “مع مرور الزمن شكلت الوثائق المكتوبة مصدرا مهما وأصبح الاعتماد عليها أساساً في كتابة التاريخ، وأضحت تشكل جدلاً قائماً بين المؤرخين حول قيمة التاريخ الشفوي ومدى استيعابه لمنجزات البحث العلمي الدقيق وتراكماته، وبنظرة خاصة نجد أن المؤرخين في القرون الماضية اعتمدوا بشكل واسع على المادة الشفوية، بل إن جزءاً من التراث العربي المدون في ميادين عديدة كان تراثاً شفوياً قوامه التداول والرواية الشفوية واعتد به مؤرخون كبار في البلاد الإسلامية، حيث استفادوا من المصادر الشفوية مثل البلاذري والطبري والمسعودي وابن خلدون، وهؤلاء من أوائل المؤرخين الذين اعتمدوا اعتماداً كبيراً على الروايات الشفوية عند تأليف كتبهم وقد وضعوا قواعد علمية للاستفادة من الروايات حتى أصبحت تلك القواعد بعدئذ مستقلة”.

وأوضح صعادته: “لقد حفل العالم بتجارب عديدة مكنت دول من الوصول إلى الأدلة وإثبات الحقوق الوطنية لاسيما تلك التي عانت من ويلات الحروب والاحتلال والممارسات غير إنسانية، مما شكل ذلك وسائل ضغط لانتزاع الاعتراف فضلاً عن رصد مظاهر مختلفة من التغيرات التي شهدتها البلدان من تطور وتنمية، فكانت لها قصص من الكفاح في بناء الانسان والتغلب على التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ولقد شهدت تجربة سلطنة عُمان ومن خلال هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية نجاحاً كان قوام نجاحه هؤلاء النخبة الكريمة من الأخيار بما قدموه من سير ذاتية وشواهد تاريخية شهدوا أحداثها وعاصروها، وبعضهم هم صانعو مجالات التنمية وعاشوا أنواعاً من أنماط معيشية المجتمع وعاصروا مراحل التحولات الاجتماعية والثقافية من شخصيات وزارية وقيادات عسكرية ودبلوماسية وقيادات اجتماعية وثقافية وفكرية وسياسية، مما أعطى تجربة التاريخ الشفوي في سلطنة عُمان رصيداً متنوعاً ومهماً للذاكرة الوطنية”.

بدورها، ألقت معالي الأستاذة الدكتورة بثينة شعبان المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية العربية السورية ومؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة وثيقة وطن كلمة، قالت فيها: “إنها لمناسبة عظيمة أن نلتقي اليوم في هذا المكان الذي يجمعنا حول موضوع يحمل في طياته أهمية بالغة، ليس فقط في توثيق الأحداث والوقائع، بل في حفظ الذاكرة الحية التي تشكل جزءاً أساسياً من الهوية التاريخية والثقافية للشعوب، ولنواصل ما بدأه العرب قديماً بتسجيل التراث الشفوي لحياة الرسول (ص) وأحاديثه، ونعلم جميعاً أن الاهتمام بالتاريخ الشفوي كان قد ازدهر بداية في بريطانيا وألمانيا قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وتحول إلى عمل مؤسساتي بجهود رواد جامعتي كولومبيا وشيكاغو، ليمتد انتشار مراكز التاريخ الشفوي في أوروبا وأمريكا بعد أن أعيد استكشاف معنى التجربة وقيمتها وصولاً إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي وصل فيها عدد مراكز التأريخ الشفوي في العالم إلى 1000 مركز”.

وذكرت: “بالمقابل وبالرغم من حضور الاهتمام بالتاريخ الشفوي في عدد غير قليل من البلدان العربية مثل فلسطين وليبيا وبعض دول المغرب العربي وسلطنة عمان التي أسست دائرة التوثيق الشفوي ضمن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية منذ العام 2007، إلا أننا في المنطقة العربية لم نستكشف بعد كامل أدوار وإمكان الوثيقة الشفوية ولم نختبر بعد العمل المؤسساتي التخصصي في ميادين العلوم التاريخية والإنسانية بكل ما يستدعيه هذا الميدان من بحث في الخصوصيات المجتمعية وما يترتب عليها من تكيفات منهجية ومعرفية، ورغم تأكيد القرآن الكريم على أهمية تسجيل مجريات الأعمال الإنسانية كلها إلا أن العرب والمسلمين ما زالوا مقصرين في هذا المجال”.

وأضافت المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية العربية السورية: “إن ما شهده العقد الأخير من استهداف ممنهج للهوية والتراث والثقافة والذاكرة الوطنية في الكثير من البلدان العربية، فلسطين والعراق وليبيا واليمن وسورية، يستوجب دعوة عاجلة لتأكيد حرص هذه البلدان على حفظ وتوثيق وصون وحماية تراثها وهويتها وذاكرتها الوطنية، ومن قلب هذا الحرص، ولدت فكرة وثيقة وطن في الجمهورية العربية السورية في العام 2016، كمسعى مؤسساتي منهجي ومعرفي معني بالتأريخ الشفوي للذاكرة السورية الحية وتراثها الثقافي العريق”.

ولفتت شعبان إلى أنه “منذ تأسيس وثيقة وطن، أدركنا في سورية جملة المسؤوليات المجتمعية المعرفية والثقافية التي يفرضها ميدان عمل في التاريخ الشفوي، فالتأريخ الشفوي الذي يناقش السرديات التاريخية السائدة والمهيمنة ويؤسس لسرديات مغايرة حيناً ومنافسة في بعض الأحيان، يحظى بمكان محوري في شبكة علاقات القوة الكامنة في إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة وسد الثغرات المعرفية بخصوص الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، وفي ضوء ذلك كان  العمل على نشر ثقافة التأريخ الشفوي وتمكينها مجتمعياً وثقافياً أحد أهم أولوياتنا  وقد قاربنا هذا العمل على عدة مسارات: أحد تلك المسارات كان في العناية الفائقة التي أولتها المؤسسة بعلمية ومنهجية التأهيل والتدريب وبناء القدرات والمهارات اللازمة للباحثين والمهتمين بالعمل في مجال التأريخ الشفوي، بغية إعداد وتكوين فرق عمل بحثية مدربة بالمعنى الاحترافي بما يناسب حجم مشاريع المؤسسة وأنواعها، وتفعيل دور المؤسسة المجتمعي في تنمية وتأهيل الموارد البشرية المحلية وإثراء رأس المال الفكري كمساهمة تتطلع إليها المؤسسة في رفد العملية التنموية، ولقد بدأت وثيقة وطن بمسابقة الزمن لتسجيل روايات السوريين الذين عاشوا فصول حرب إرهابية على سورية استهدفت المؤسسات والذاكرة والهوية الوطنية والعيش المشترك، وكلما تقدمنا في تسجيل وتدوين حكايات الناس كلما شعرنا أن الحاجة لهذا التدوين كبيرة وفي أكثر من مجال، وبالإضافة إلى إجراء أكثر من 1200 مقابلة لتسجيل شهادات أناس عايشوا الحرب على مساحة الجمهورية العربية السورية بدأنا مشاريع تأريخ دور المرأة في زمن الحرب ودور الفن في الصمود في زمن الحرب، وخوفاً على تراثنا من هذا الاستهداف بدأنا بتأريخ المونة السورية والتي كان لها تاريخياً دور هام في صمود بلدنا عبر القرون، كما اقترحنا مشاريع تدوين الحرف اليدوية التي هي عنوان الهوية التاريخية لسورية”.

ولفتت معالي الأستاذة الدكتورة بثينة شعبان إلى أن “المشروع الذي أدهشني هو مشروع (هذي حكايتي)؛ حيث أطلقت وثيقة وطن في عام 2019 مسابقة على مستوى سورية بعنوان (هذي حكايتي) كي يكتب كل سوري عاش قصة خاصة في زمن الحرب قصته، وخصصنا 12 جائزة لأربع فئات عمرية وثلاث جوائز لكل فئة: ذهبية وفضية وبرونزية آملين أن نتمكن بهذه الطريقة من مساندة الباحثين الذين يقومون بجولات مُضنية لجمع الشهادات وأن يوفر هذا المشروع عدداً كبيراً من القصص التي تردنا بدلاً من أن نجول البلاد بحثاً عنها، ولكن المفاجأة كانت أهم وأكبر من هذا بكثير؛ فقد اكتشفنا من خلال هذه القصص أبطالاً مجهولين وضعوا أرواحهم على أكفهم من أجل حماية مؤسسة أو إنقاذ سجلات هامة للوطن أو حماية معمل حيوي بعد أن اخترعوا طرقاً غير مسبوقة لإخفائه عن الأنظار، وهؤلاء لم يكونوا من الجيش ولا من الدفاع الوطني ولم يكلفهم أحد بالاضطلاع بهذه المهام المستحيلة والتي قد تودي بحياتهم في أي لحظة، ولم يأملوا أن يسمع بهم أحد أو يشكرهم أحد ولكن منطلقهم كان الوطنية الصافية والانتماء وقداسة الواجب الوطني، ولقد كانت قصص هؤلاء مؤشراً أكيداً على قدرة سورية على الصمود في وجه أخطر وأكبر مؤامرة إرهابية تعرض لها أي بلد في العالم، ولقد علمتنا قصصهم أن سورية صمدت وانتصرت لأن أبناء شعبها بذلوا أقصى ما لديهم من جهد وتعب وذكاء لحمايتها، وتخلّل ذلك تعاون جميل بين كلّ أطياف الشعب السوري وفي كلّ المناطق والذي كان بحدّ ذاته رداً حاسماً على محاولات زرع بذور الفتنة الطائفية والمذهبية بين أبناء الشعب الواحد، وهذه القصص شكلت لنا مَعيناً لا ينضب عن أهمية التماسك المجتمعي وعمق الانتماء والقناعة بأن مصلحة الوطن تعلو ولا يُعلى عليها، وزادتنا ثقة بسرّ قوة الشعب المؤمن ببلده وحضارته، وعلمتنا درساً أن التركيز على ثقافة وانتماء الشعوب هو الدرع الحصين في مواجهة الحروب العدوانية ومخططات الهيمنة الشريرة، كما أكّدت هذه القصص البون الشاسع والمسار المتناقض بين روايات السوريين الذين عاشوا هذه الحرب وعانوا الويلات منها، وبين كلّ ما كتبه الإعلام الغربي المضلِّل عن مسار ومجريات وأهداف هذه الحرب، الأمر الذي يؤكّد على ضرورة قيامنا بالتأريخ للأحداث التي تعتري بلداننا، وأن نقدّم نحن للمؤرّخين المادة الصادقة حول مجريات الأحداث في بلداننا كي تنشأ أجيالنا على حقيقة ما يجري لها، وليس على أكاذيب ما يروّجه الغرب المغرض عنها”.

وبيّنت شعبان: “أما المسار الآخر، فكان في التواصل مع الجهات المختلفة والانفتاح على التجارب المتنوعة داخل سورية وخارجها بهدف تبادل المعارف والخبرات والتعاون في هذا المجال للحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي وتعزيز الروابط الإنسانية والعلمية، وفي العام 2021، كان اللقاء بين هيئة الوثائق والمحفوظات في سلطنة عمان ومؤسسة وثيقة وطن في الجمهورية العربية السورية، تلاقت الاهتمامات بتوقيع مذكرة تفاهم بين الطرفين في دمشق عام 2023م، للتعاون وتبادل الخبرات والمعارف في صورة عمل عربي مشترك ومستمر في التأريخ الشفوي، و تلاقت الأفكار حول أهمية بحث وتعزيز التجربة العربية في التأريخ الشفوي فكانت فكرة المؤتمر الدولي للتاريخ الشفوي حيث تجتمع التجارب والخبرات عربياً وعالمياً لنناقش معاً الفرص وأشكال استثمارها والتحديات وسبل التصدي لها وننظر في سبل تكييف المنهجيات وإنضاجها ونبحث في الرؤى والمقاربات المستقبلية الممكنة في العمل والتشارك، ونأمل أن يسهم المؤتمر في تعزيز هذه الروح، وأن يكون بمثابة نقطة انطلاق لخلق بيئة حوارية ونقدية تسهم في تطوير ثقافة التأريخ الشفوي والتعاون في المشاريع الثقافية العربية المستقبلية واستدامتها، ويعكس المؤتمر الحالي تلاقي الطموحات في صياغة مبادرة عربية تشاركية تسهم في التأسيس لمقاربة عربية في التأريخ الشفوي تستجيب للاحتياجات المحلية وتحدياتها وتغتني بالانفتاح على التجارب العالمية والتفاعل معها تأثراً وتأثيراً، وفي الاستجابة للاحتياجات والتحديات، يلوح أمامنا ما تشهده المنطقة العربية، بل ما يشهده العالم، من صراعات وحروب مباشرة وغير مباشرة ومحاولات إبادة ومحو للهوية والثقافة والتراث، وهذا يضعنا أمام مسؤولياتنا الوطنية الملحة في الصون والحفظ والتوثيق لتاريخنا بأيدينا وأدواتنا ومن منظور هويتنا وتراثنا وثقافتنا نحن، ونحن نعلم جميعاً أن التقصير في تحمل هذه المسؤولية الوطنية سيبقي الباب مفتوحاً أمام المساعي الاستعمارية وأدواتها الاستشراقية في تزييف وتحريف واستغلال تواريخ الشعوب من أجل إضعافها وإحكام السيطرة عليها،  ولنا فيما يحدث اليوم في فلسطين المثال والعبرة، فالاحتلال الإسرائيلي لا يقتل الفلسطينيين وحسب بل يقوم بمحاولات محو وإبادة شاملة لكل شيء حضاري، وعندما يستهدف الاحتلال كل شيء دون باق فهو يستهدف الذاكرة والتاريخ قبل أي شيء وهذا الاستهداف لا يخص فلسطين وحدها بل الوطن العربي بأكمله وتاريخه وذاكرته لأن الذاكرة العربية متداخلة ومتكاملة بين أقطار هذا الوطن، وبالمقابل فإن وعي ضرورة التوثيق بكوادر وطنية ومن وجهة نظر وطنية ولأهداف وطنية لا يعني الاستغناء عن التجارب العلمية العالمية، التي كان لها دور مهم في تطوير مقاربة التأريخ الشفوي وتكييفها مع خصوصياتها المحلية، كالتجربة الصينية والروسية والإيرانية المشاركة معنا في المؤتمر، بل يعني تعميق الحوار معها واستلهام تجاربها من أجل إغناء التجربة العربية وتطوير قدراتها وكوادرها علمياً ومنهجيا، وفي الختام أوكد أن طموحات وآمال المؤسسة والهيئة أن يكون هذا المؤتمر نقطة انطلاق وتدشين لتعاون عربي وعالمي يؤسس لاستدامة اللقاءات العلمية بهذا المجال”.

من جهته، استعرض سعادة الأستاذ الدكتور محمد الطاهر الجراري رئيس المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية بدولة ليبيا، تجربة المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية في جمع رواية التاريخ الليبي.

وقال: “أنشا المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية عام 1977 للنهوض بالدراسات التاريخية ذات الصفة العلمية الموثقة، وللعمل على إعادة كتابة التاريخ الليبي والعربي والإسلامي والإنساني متبعا المنهج العلمي المعتمد في الأوساط الأكاديمية بالجامعات ومراكز البحوث، ومن أهم اختصاصاته تجميع وتوثيق مصادر التاريخ الليبي وجمع الروايات الشفوية والكتابات المتصلة بمرحلة الجهاد، والتعريف بتراثنا وبالتراث العربي والإسلامي في كافة مراحله وعصوره، وجمع ودراسة البيانات والإحصائيات المتعلقة بأضرار الحروب، وإجراء الدراسات المعاصرة ذات الصلة بأهداف المركز، وجمع ما يتعلق بالوثائق والمخطوطات ودراستها وتحقيقها ونشرها، فقد نفذ المركز مشروعا لجمع التاريخ الشفوي الليبي بعد التشاور مع منظمة اليونيسكو عام 1977م، ويهدف هذا المشروع لجمع روايات الجهاد الليبي من سنة 1911 إلى 1945م، ولزيادة عملية الدقة تم استدعاء الأستاذ الخبير جان فنسينا من جامعة ويسكنسن، وفي مارس 1978م انطلق العمل بالمشروع، حيث تم أنجاز 4 حملات من عام 1978 إلى عام 1982م، وتابع المركز العمل حتى أنتج أكثر من عشرة آلاف شريط وأكثر من سبعة عشر ألف مقابلة، هذه الثروة المعرفية الضخمة هي العقل الليبي الجامع لمختلف مناطق الجغرافية الليبية الواسعة والقبائل الليبية الكثيرة والآراء الليبية المتنوعة والمؤكدة في مجملها على أن مشروع الرواية وكل مشاريع المركز هي من أجل ليبيا الواحدة والاقتصاد والثقافة والتراث الليبي الواحد”.

وانطلقت أعمال اليوم الأول من المؤتمر بتقديم المحور النظري الذي يأتي تحت عنوان “مفهوم التأريخ الشفوي عربيا”، وترأس الجلسة الدكتور طالب بن سيف الخضوري، وقدم في هذا المحور الأستاذ الدكتور مأمون وجيه أستاذ متفرغ بكلية دار العلوم بجامعة الفيوم بجمهورية مصر العربية ورقة بحثية بعنوان “التأريخ اللغوي بين الرواية الشفهية والتدوين”.

وقال الدكتور مأمون: “تمثل الرواية الشفهية المصدر الأقدم لنقل المعرفة اللغوية، حيث كانت المجتمعات تعتمد على الحكي والقصص والأنشطة الشفهية، للحفاظ على تراثها اللغوي والثقافي، ومع تطور الكتابة والتدوين، أصبحت اللغة مكتوبة بشكل رسمي في السجلات والكتب، مما أتاح حفظها ونقلها بشكل أكثر دقة واستمرارية. وتبرز أهمية دراسة التاريخ اللغوي من خلال الرواية الشفهية والتدوين، حيث تقدم كل منها رؤى متميزة ومكملة لفهم تطور اللغة وانتقالها عبر الأجيال”.

كما قدم الدكتور سامي مبيض كاتب ومؤرخ ورئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق بالجمهورية العربية السورية، ورقة بحثية بعنوان “محاولات تدوين التاريخ الشفهي في سورية”، مشيرا إلى أن البحث يعالج محاولات تدوين التاريخ الشفوي في سورية، من خلال تجربتين منفصلتين، الأولى كانت للفنان مصطفى هلال سنة 1948، الذي جال على كبار السن من مطربي ومطربات القرن التاسع عشر، ودوّن ذكرياتهم الشعبية الموسيقية، وبعد تلحينها، جعل لها برنامجا في الإذاعة السورية بعنوان “من نشوة الماضي”، وقد ظهرت فيه ألحان تراثية استخدمت واشتهرت في سنوات لاحقة، بصوت صباح فخري في سورية وفيروز في لبنان.

وأضاف: “واجهت الفنان مشاكل عدة، منها إثبات هوية الأغنيات لأنها جاءت بلهجات متضاربة ومختلفة، (كاللهجة السورية والفلسطينية والمصرية)، ومنها ما تطلبت من “تهذيب” لفظي لكي تتناسب مع رقابة وذائقة القرن العشرين، أما التجربة الثانية فكانت للمؤرخ السوري يوسف أبيش، عندما حاول إضفاء شيء من المنهجية على التاريخ الشفهي أثناء عمله في الجامعة الأمريكية في بيروت في منتصف ستينيات القرن العشرين، وسجل ذكريات نزار قباني ورئيس الوزراء الأسبق حسني البرازي، ولكنها لم تكتمل ولم تُثمر، وقد واجهت معارضة شديدة من المؤرخين الكلاسيكيين الذين عدوها خرقاً للمنهجية العلمية في البحث والتدوين”.

بعد ذلك، قدم الأستاذ الدكتور حسين المناصيري وهو دكتور طرائق تدريس التاريخ بكلية التربية بجامعة القادسية بجمهورية العراق دراسة بحثية بعنوان “خصوصية الثقافة الشفوية في التاريخ العربي في ظل مفهوم التاريخ الشفوي المعاصر- دراسة تاريخية تحليلية”.

وقال: “لكل أمة من الأمم خصوصياتها الثقافية في شتى مجالاتها المختلفة، وإذا ما تقصينا الثقافة عموما والثقافة الشفوية في التاريخ العربي وهي مجال الدراسة الحالية على وجه الخصوص، فإن للعرب خصوصيتهم الثقافية في السرد لأحداث تنقل شفاها منذ حقب موغلة في الزمن، الأساس الذي قام عليه التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده في نقل ذلك التراث الإنساني الموغل في القدم، فمن البديهي القول إن التاريخ العربي نقل شفاها على لسان المؤرخين القدامى  منهم والمحدثين على وجه العموم لما يحمله العربي في خصائصه الذاتية من قوة الذاكرة والحفظ عبر أجيال وأجيال، لذا يرى هؤلاء أن البدايات الأولى لذلك التاريخ هو النقل الشفاهي عن طريق المناقلة بالإسناد، ونظرا لأهمية ذلك التاريخ الشفوي فقد أضحى ثقافة سائدة في المجتمع العربي وأحد المصادر المهمة لحفظ تراثه الثقافي”.

بدوره، قدم الدكتور محمد سعيد الطاغوس عضو الهيئة التدريسية في قسم الفلسفة بجامعة دمشق وعضو مجلس أمناء مؤسسة وثيقة وطن بالجمهورية العربية السورية كلمة قال فيها: “بالرغم من الزيادة الملحوظة في الاهتمام الرائد بالتاريخ الشفوي في مختلف البلدان العربية، لم تحظَ ممارسة التاريخ الشفوي بعد بالاعتراف الكامل في مجال التأريخ العربي، خاصة عند مقارنتها بتطور هذا المجال في بعض البلدان الأوروبية، ولم تكتفِ التجربة الأوروبية بنسخ النموذج الأمريكي السابق فحسب، بل توسعت على مدار القرن العشرين لإعادة استكشاف وتكييف مفهوم وآليات التاريخ الشفوي في سياق الكتابة التاريخية بشكل عام، ولقد بدأت هذه الرحلة بفصل التاريخ عن اللاهوت، مروراً بالعديد من المنعطفات الفكرية، مثل المدرسة الوضعية ومدرسة الحوليات، وامتدت إلى ما بعدهما لتضم وجهات نظر منهجية ومعرفية متنوعة، وتهدف هذه الورقة العلمية إلى بدء نقاش حول رهانات تجربة التاريخ الشفوي وعلاقتها بتحديات الكتابة التاريخية العربية، كما أنها تدرس خصوصية التاريخ الشفوي كحقل ينتمي إلى العلوم الإنسانية والتاريخية، كما تتناول مكوناته وقضاياه الابستمولوجية، وهذا يستدعي النظر في الخصوصيات المحلية لمن يكتب التاريخ وكيف يكتبونه، وتبحث الورقة العلمية أيضا في إمكانية الانتقال من مجرد نسخ التجربة الغربية إلى إعادة استكشاف المبررات المحلية للتاريخ الشفوي، كما تستقصي طرق دمج السرد الشفوي في التدوين التاريخي العربي المعاصر وتسلط الضوء على العقبات الرئيسية وسبل التغلب عليها”.

وتحدثت المكرمة الدكتورة عائشة الدرمكية عضو مجلس الدولة في سلطنة عمان وأستاذ مساعد اللغة العربية وآدابها في الجامعة العربية المفتوحة بسلطنة عمان عن “الاستثمار في التراث الثقافي”، موضحة: “تمثِّل الثقافة إحدى أهم مرتكزات التنمية، وهي أصل من أصول الأمم ومكانتها وحضارتها الإنسانية، ولهذا فإن العمل على استدامتها قائم على اعتبارها قدرة إبداعية، ومحرِّكاً أساسياً من محركات التنمية في القطاعات التنموية كلها، لذا فإن الاستثمار في الثقافة عموما، وفي التراث الثقافي بشكل خاص، يشكِّل أساسا للتنمية الثقافية الحديثة، باعتبارها محركا يقوم على التأثير والخلق الإبداعي، وتكمن أهمية هذه الدراسة في توضيح إن التراث الثقافي يقوم على مكانة التأريخ الشفوي الذي يشكِّل أولوية وطنية للدول، وحفاظها على هويتها، ثم قدرتها على استثماره باعتباره إبداعا خلّاقا، وذلك وفق متطلبات سوق الأعمال، وآفاق التطورات التقنية والاقتصادية وبالتالي الإبداعية، وتهدف الدراسة إلى بيان أهمية استثمار التراث الثقافي والتأريخ الشفوي، وتقديم رؤية بشأن آفاق الاستثمار المعرفي للتراث الثقافي، بجانب الكشف عن القيمة المضافة لاستثمار التراث في الصناعات الإبداعية، وتقديم مجموعة من التجارب العمانية في مجال الاستثمار في التراث.

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو جريدة الرؤية العمانية