100 عام على الجدار الحديدي لجابوتنسكي وشارون

100 عام على الجدار الحديدي لجابوتنسكي وشارون

سالم الكثيري
في تعليقه في مُقابلة تلفزيونية على أحداث “طوفان الأقصى”، أشار الدكتور فوزي البدوي أستاذ الدراسات اليهودية ومقارنة الأديان في الجامعة التونسية- والذي يُعد من أهم المتخصصين المعاصرين في هذا الشأن- إلى شخصية يهودية مُهمة قد لا تكون معروفة كثيرًا لدى الأوساط العامة، وإن كانت معروفة لدى المختصين في الصراع العربي الإسرائيلي دون شك.
هذه الشخصية هي فلاديمير جابوتنسكي، ذي الأصول الأوكرانية، الذي يُعد من أكثر الصهاينة تشددًا وعنصرية، ومن دعاة القضاء على الشعب الفلسطيني وإبادته من الوجود تمامًا؛ لأنها الطريقة الوحيدة المُمكنة لاستيطان اليهود في الأراضي الفلسطينية وفق رؤيته، وهو مُحق في هذه الرؤية، وإن كانت متعصبة. فقد كتب جابوتينسكي مقالًا عام 1923 يعترف فيه صراحة بأنَّ فلسطين ليست أرضًا لليهود وأنَّه لو كان فلسطينيًا لقام بمثل ما يقوم به الفلسطينيون في الدفاع عن أرضهم؛ لأنه لا يوجد شعب على مدار التاريخ سلَّم أرضه هكذا لمحتل دون دفاع أو مُقاومة. ومن هنا أتت دعوته لإقامة جدار حديدي وهمي يقوم على فكرة قتل رغبة المقاومة لدى أصحاب الأرض، قبل قتل المقاومين أنفسهم؛ وذلك من خلال التنكيل بالشعب وإرهابه وهزيمته نفسيًا، وبهذا يكون جابوتنسكي أول من دعا إلى إقامة الجدار العازل كفكرة من أفكار الحرب النفسية لتكون بمثابة الخط السياسي لعنف الدولة الذي مارسته إسرائيل لاحقًا في كل حروبها مع الفلسطينيين والعرب؛ لتُعمل فيهم آلة القتل والفتك بهم منذ نكبة 1948 إلى يومنا هذا، رئيسًا بعد رئيس دون هوادة وصولًا إلى نتنياهو الذي يعتبر وريث جابوتنسكي الشرعي وفقًا للدكتور فوزي البدوي. 
بعد دعوة جابوتنسكي بسبعين عامًا وفي بداية الألفية، أصبحت الفكرة حقيقة على أرض الواقع وماثلة أمام العالم أجمع على يد العنصري الآخر المجرم آريل شارون؛ حيث طوَّق الضفة الغربية وعزل القدس عن محيطها بجدار إسمنتي سميك يصل ارتفاعه إلى 9 أمتار ويزيد طوله على 700 كيلومترًا وبتكلفة تصل إلى حوالي 3 مليارات دولار؛ ليفوق بذلك “جدار برلين” الشهير في الطول والارتفاع والتكلفة أيضا، رغم كل الدعوات الأممية والقانونية الرافضة لإقامته؛ كونه يمثل نظامًا للفصل العنصري (Apartheid) بكل بجاحة. المفارقة التي حصلت أنه بعد 100 عام من دعوة جابوتنسكي المقيتة و20 عامًا من مشروع شارون الباهظ الثمن وفي الوقت الذي اعتقدت فيه إسرائيل أنها قد قتلت الرغبة في المقاومة لدى السواد الأعظم من الفلسطينيين من خلال سياستيْ الأرض المحروقة وتكسير العظام، واطمأنت إلى كبحها لدى القلة القليلة، بحسب توهُّمِها، وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يكون الجدار العازل أكثر متانة وإسرائيل أكثر تماسكًا، جاءت معركة “طوفان الأقصى” على حين غِرة لتقلب كل الموازين رأساً على عقب، بشهادة الإسرائيليين والأمريكان أنفسهم، قبل غيرهم من المُحللين في الشرق والغرب. 
استطاعت حماس- وهي حركة مُقاومة وليست جيشًا نظاميًا- اختراق هذا الجدار الذي ظهر على حقيقته كجدار مهترٍ؛ لتؤكد للعالم أن مقاومة المحتل فكرة لا يُمكن أن تموت لدى صاحب الأرض، وأن التحرر من الاحتلال حق لا يسقط بالتقادم، وأن “الجيش الذي لا يُقهر” ليس إلّا أكذوبة ودعاية صهونية على غرار دعاية جوبلز النازية. ولأوَّل مرة يتم مثل هذا الهجوم المُباغت من قبل الفلسطينيين وفق خطة سرية مُحكمة أبهرت كل المخططين الإستراتيجيين والعسكريين على مستوى العالم ولأول مرة يتم أسر 250 أسيرًا إسرائيليًا دفعة واحدة، وقتل نحو 1200 شخص في يوم واحد. ووفقًا للدكتور مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية فإن ما خسرته إسرائيل في حرب غزة الحالية أضعاف أضعاف ما خسرته في حرب الأيام الستة، والتي هزمت فيها 3 جيوش عريية واحتلت القدس الشريف والجولان وسيناء وجنوب لبنان بمساحة تقدر بثلاثة أضعاف مساحة مصر، كما إنه ولأول مرة يتم فيها التخفيض الائتماني لإسرائيل ويُسجَّل فيها 10 آلاف جريح وقتيل. ولولا الجسر الجوي الأمريكي لتزويد إسرائيل بالسلاح والمال لما صمدت كل هذه المدة، فقد منحتها منذ بداية هذه الحرب حتى الآن 45 مليار دولار؛ أي بمعنى أنها تدفع على كل شهيد فلسطيني مليون دولار. وبلغة الأرقام كذلك يذكر الدكتور طارق السويدان في محاضرة له عن تداعيات 7 أكتوبر أن الإحصائيات تشير إلى أن إسرائيل تلقت خلال العشر سنوات الماضية مساعدات أمريكية بمبلغ 320 مليار دولار، بينما تقدر خسائرها المتوقعة من هذه الحرب للعشر سنوات المقبلة بـ 400 مليار دولار وهو رقم مهول جدًا. 
هذا بطبيعة الحال لا ينفي بأي حال من الأحوال ما يتعرض له الشعب العربي المسلم في فلسطين عامة وفي غزة خصوصًا من مذابح وقتل وتدمير منذ ما يُقارب العام؛ كأول إبادة جماعية تُعرض على الهواء مباشرة ويتفرج عليها العالم بدمٍ بارد، وهو منزوع الضمير والإنسانية. إلّا أن حركة التاريخ وإن كانت بطيئة وغير ملحوظة كما يؤكد طارق السويدان وغيره من المتخصصين، فإن صاحب الحق لا بُد وأن يستعيد حقه إن لم يكن اليوم فغدًا.
ومعركة طوفان الأقصى تمثل بداية الانطلاقة لاستعادة هذا الحق الذي ما يزال بحاجة إلى مزيد من الوقت والتضحية والثبات وتهيئة أسباب النصر، وهنا نُشير إلى ما قد ذكره الدكتور عبدالوهاب المسيري سابقًا في مقابلة له على قناة الجزيرة، حول هشاشة هذا الكيان من الداخل حيث يذكر أن: “الجنرال بوف قائد الحامية الفرنسية في حرب 1956 أو ما يعرف بالعدوان الثلاثي على مصر، جاء بدعوة من الصحفي المصري المشهور محمد حسنين هيكل ليُلقي محاضرة في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بعد حرب أكتوبر سنة 1973؛ حيث قال في معرض حديثه إنه بينما كنتُ أحلق بالطائرة مع إسحاق رابين وأُهنئه بالنصر العظيم في حرب 1967، جاء رد رابين صادمًا لي؛ حيث فوجئت به يقول وهو في لحظة النصر، ولكن ماذا سيبقى بعد هذا؟”؛ أي أنه يدرك تمامًا أن إسرائيل زائلة حتمًا، مثلما هي في كل الأدبيات الإسرائيلية. وتحدث يعقوب تالمون عن عُقم الانتصار، فيما أشار أحد المفكرين إلى أنَّ إسرائيل ستركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة؛ فالإسرائليون يدرسون مآلات الحروب الصليبية والجيوب الاستطانية تاريخيًا ويدركون أنَّ دولتهم زائلة لا محالة مثلها.
 

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو جريدة الرؤية العمانية