اغتيال نصر الله.. “إجراء يحقق العدالة”؟!

اغتيال نصر الله.. “إجراء يحقق العدالة”؟!

 

د. عبدالله باحجاج

العنوان أعلاه هو موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، وهذا ليس غريبًا عليهما أو غير مُتوقع ممن يكون في السلطة الأمريكية مثلهما، فهما ينتقلان الآن إلى موقع تبرير استخدام العنف المفرط والوحشي الذي استهدف اغتيالات جماعية لقادة حزب الله وعلى رأسهم حسن نصر الله الأمين العام للحزب، وإلحاق أضرار بشرية ومادية جسيمة في صفوف المدنيين، بعد ما كانا من صناع العنف المُفرط وفاعليه.

ومن المُلاحظ أنَّ طبيعة الفكر الذي يقف وراء عنف الاغتيالات هو نفسه المنسوخ من غزو العراق مع الفارق، من حيث الشمولية والأهداف، وهو نفسه في “الحرب على الإرهاب” التي كانت في أفغانستان، فمثلًا، فقد استخدم في غزوه شعار “الصدمة والترويع” بحجة تخليص الغرب من الأسلحة المزعومة لدى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وقد استُشهد ما يزيد عن 209982 عراقيًا مدنيًا وفق ما ذكرته صحيفة إندبندنت بمناسبة مرور عشرين عامًا على غزو العراق عام 2003، ولم يعثروا حتى الآن على هذه الأسلحة، مما سميت بـ”كذبة العصر”.

وهو نفسه طبيعة العنف الذي تستخدمه قوات الاحتلال الصهيوني بدعم ومساندة أمريكية/ غربية في غزة من قتل جماعي وتهجير وتدمير مُمهنج لمقومات العيش فيها، وهو نفسه نسخة مكررة ومطورة تكنولوجيًا لما حدث في الاغتيالات الجماعية لقادة حزب الله واستهداف الضاحية الجنوبية. والمضحك المبكي في آنٍ واحد، أن هناك “نخب ومثقفين” في مجتمعاتنا من يفرح بالاغتيالات تحت جنوح رؤية حادة تُعبِّر عن فكر غرق في دور حزب الله في سوريا على وجه التَّحديد، دون أن يرفع وعيه إلى دور الحزب في نصرة غزة المُتعدد الأشكال، وهذه معادلة كانت كفيلة بعدم دخول الأمة في فتنة الأفكار والعقائد والتصورات، خاصة والأمور ملتبسة، ولأنَّ المُتضرر الأكبر هنا وحدة الأمة في حقبة الأزمات والمحن.

ولو توقَّف هذا الوعي عند رمزية رفع نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل الاغتيالات بساعات لوحتين؛ إحداهما باللون الأخضر وسماها “لوحة النعمة” والأخرى باللون الأسود وسماها “لوحة اللعنة”، في مُغازلة لدول وتهديد لأخرى في الشرق الأوسط؛ لوجد هذا الوعي أن الأمة كلها في سفينة واحدة تُهددها مخاطر الصهيونية، ولن يُساهم من جهته في إشعال الفتنة بداخلها، أو حتى يُثير الجدل والخلاف بين نخبها ومثقفيها، ومن المضحك والمبكي أيضًا أن هذا الوعي ورغم علمه بمالات الأزمات والمحن التي تمر بها الأمة، إلّا أنه يسعى باحثًا في الأرشيف عن مقاطع صحيحة أو مُزيَّفة تثبت رؤيته التي تُثير الفتن، ويعتبرها من الحقائق دون التثبت من صدقيتها أو من يقف وراءها. وكلما أخذت مداها في الانتشار أو تصله من مُفتنين مقاطع جديدة، تنتابه نشوة النصر! وهو يعلم- وإن كان لا يعلم فهذه مصيبة- أنه يُساهم في تأجيج الفتنة في مرحلة هي الأصعب على الأمة في تاريخها الحديث.

وقياسًا بمنطق بايدن ونائبته هاريس المرشحة عن الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المقبلة، نتساءل: من يُحقق العدالة للعراقيين؟ سنجد حتى الآن تنظيمات إرهابية مُسلّحة بعضها كانت امتدادًا لإنتاجات العنف المفرط الأمريكي/ الغربي في أفغانستان، والأخرى نتيجة لحسابات سياسية، والاستشراف نفسه سيكون في الحالة اللبنانية من خلال العنف الوحشي الجديد الذي هو أقرب توصيف للإرهاب، فهو سينتج في المقابل عنفًا مُماثلًا على المستويين الفردي (الفرداني) أو التنظيمي القديم أو استحداث تنظيمات جديدة؛ ذلك أن اغتيال القادة لا يقضي على التنظيمات، سيذهبون، ويأتي غيرهم، والأخطر فيها، ولادة أفكار جديدة من رحم العنف المتطرف وضحاياه.

كما إن قضية الاغتيالات والتدمير العنيف الوحشي؛ كالذي شهدناه في الضاحية الجنوبية ببيروت، ليس من معايير استحقاقات النصر المؤقت أو الدائم؛ بل هي معايير نصر الآخر، ولنا في أفغانستان نموذجًا مع التسليم باختلاف الحالتين. فقد قُلبت أفغانستان عاليها سالفها من حجر وشجر وبشر، والآن تحكم حركة طالبان هذا البلد بعد أن طُردت القوات الأمريكية والغربية منها، وتركت وراءها تنظيمات مسلحة عابرة للحدود الإقليمية والدولية، وأصبحت تجربة طالبان ونجاحها في الوصول للحكم مُلهمة للتنظيمات التي ولدت وتلكم التي تفكر في الولادة من رحم العنف المتطرف.

لذلك.. فمنطقة الشرق الأوسط الآن في حقبة العنف المتطرف، وستتماهى مع حقبة إرهاب التنظيمات الآيديولوجية المسلحة، وهي الآن تتلاقى زمنيًا، وقد يحدث الانصهار في مرحلة لاحقة في حالتين؛ الأولى: نجاح الاستراتيجية الجديدة للتنظيمات الإرهابية وبالذات “داعش” في تجنيد الشباب عبر استخدام الإنترنت، والثاني: استمرار الحكومات في إنتاج الفقر وعدم حل قضايا البطالة والتهميش ومحاربة الفساد في الوقت المناسب.

ومن هُنا.. يتعين على الدول الآمنة والمُستقرة أن تُراجع الآن مساراتها التنموية من منظور الأبعاد الاجتماعية، كما عليها أن تُحكم تطوير قوتها الخشنة من سياقات الدوافع الملحة للتطوير والتي لا نحصرها في التقنية العسكرية المتقدمة فحسب، وإنما كذلك في تحصين مناعتها الاجتماعية والفكرية والآيديولوجية من الاختراقات وسد الثغرات التي تزيد من الاحباط الاجتماعي وبالذات عند الشباب؛ لأن الانتصارات في حروب الجيل الرابع الجديدة لن تُطلق فيها رصاصة واحدة، وإنما من خلال الاختراقات السيبيرانية والشائعات والحروب الإعلامية التي ستستهدف أولًا مناعة كل مجتمع، وشل قدراته العسكرية ثانيًا، وذلك على عكس الأجيال الثلاثة السابقة من الحروب التي كانت تستهدف أولًا القدرات العسكرية، وتلك سيكون لنا معها وقفة عميقة في مقال مقبل بإذن الله.

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو جريدة الرؤية العمانية