رجلٌ.. في زمن عزّ فيه الرجال

رجلٌ.. في زمن عزّ فيه الرجال

 

 

مصطفى محسن اللواتي

 

حق أن يقال فيه إنه كان أمةً في رجل.. نجح في اختبار الأرض بامتياز، فكافأته السماء بوسام الشهادة.. أدّى ما عليه تجاه أمته دون كلل أو ملل، فكان لا بُد أن يصعد ليرتاح..

إنِّه سماحة السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله في لبنان، الذي صعد رفاقه قبله، فأبت إرادة السماء أن تراه يتألم لفراقهم، فكان اللقاء ليس بهم فحسب؛ بل بجده المصطفى صلى الله عليه وآله الأطهار.

كان يعيش الانتصار، ويعيش للانتصار، وكان يتمنى الشهادة، وكان يرى في الشهادة انتصارا، فحصل على كليهما.. يكفيه فخرًا أنه قهر ودحر الصهاينة مرتين، عام 2000 وعام 2006، وأصبحوا بفضل قيادته يولولون ويصرخون مطالبين بوقف الحرب التي هم من أشعلها وبدأها.

نصر الله كانا مشعلا للقلوب، ومنارا في سنوات مرَّت جدباء كلها إحباطات وانتكاسات وهزائم، وفوق هذا تطبيع علاقات، مكاتب تجارية، مشاريع زراعية، فتح سفارات، سياحة متبادلة..إلخ.

لست في وارد مدحه، فلا الكلمات توفي، ولا المشاعر تعبّر، ولا شخصيته يستطيع أداء جزء من حقها قاصر مثلي.

هذا الرجل ملك مشاعر الملايين، فأحبوه بصدق وعمق، وهذا الرجل امتلك كاريزما عجيبة، إنه سحر الإيمان والورع والتقوى والجهاد والتضحية، فكان بحق سيد القلوب، وقائد العقول، وآسر المشاعر.

حينما يُعلَن موعد كلمته، كل المواعيد يتم تأجيلها، ونتفرغ لهذا اليوم كي نستمع إليه، قد لا يكون في الكلمة ما يأمله بعضنا، ولكن فيها الكثير مما نحتاجه، فيزرع فينا الأمل، والإقدام، والحماس، وكل طاقة يحتاجها الفرد منا كي لا يتحطم أمام ضراوة الأعداء، وتكالب القوى الغاشمة.

كانت شخصية هذا السيد الرائع الجميل البطل مميزة في كل جوانبها، والإلمام بها يحتاج بحثا كبيرا.

وهنا سأستعرض بشكل سريع ما كنت ألاحظه وغيري من بعض أوجه روعة وعظمة هذا السيد:

– ابتسامته التي تزرع الاطمئنان، وتزيح اليأس، وتريح النفس، رؤية ابتسامته الدائمة كانت ملاذا للهروب من الضيق والألم.

لم تكن الابتسامة وحدها هي ما تأسر محبيه؛ بل كان يمتلك سخرية لاذعة، وأسلوبًا ساخرًا تهكُّميًا ينال به من أعدائه مُبتسمُا، فكما كانت له ابتسامة تريح محبيه، كان له ابتسامة تغيظ أقزام الصهيونية ومن يواليهم، وتجعلهم يعيشون النرفزة بكل معانيها.

وقد عبّر عن ابتسامته الشاعر بأحسن تعبير:

سلامً على السِن الضحوك إذا اختفت

وراء التحدي تشعل الحرف مجمرا

 

تناسخت في صلب الجماهير هازئاً

بمن حسبوا صلب الجماهير أبترا

– قدرات خطابية هائلة، بحيث كان اعلام الصديق والعدو في كثير من الاحيان يأتي بمتخصصين لقراءة حركات الجسد، وحركات الشفاه، ونبرات الصوت، واستخدام الالفاظ والمصطلحات، لمعرفة ما قاله مما لم ينطق به.

وبهذه القدرات الخطابية كان العدو والصديق يستمتع بالانصات اليه، والتفكير في كل كلمة وحركة ونبرة تصدر منه اثناء الخطاب.

– صدقه ووفاؤه بما يقول، فالسيد كان قوله الصدق، وكان اذا قال صدّقه حتى اعدائه، لدرجة ان الاعلام الصهيوني كان يصرح بأنهم يصدقون السيد اكثر مما يصدقون قادتهم، لذا حين أطلق “الوعد الصادق” كان فيها “صادق الوعد”.

هذا الصدق جعله محل إحترام من خصومه في لبنان، فكان سياسيو لبنان رغم شدة الاختلاف معه، ورغم أن فيهم من كان يفجر في الخصومة، إلّا أنهم احترموا فيه صدقه، واحترموا فيه وفاءه لقوله ووعده.

– كان فصل الكلمة، وكلمة الفصل، فحينما يهدد ترتعد فرائص العدو، وكان لتهديداته وقع قوي وخاص على الصهاينة، ويعرفون ان الموت الاحمر قادم، وما كان تهديده يوما مجرد خواء؛ بل كان يعي ما يقول، واتخذ مسبقا كل الخطوات لتنفيذ ما يقول.

فإذا حضر في خطبة كانت له هيبة في نفوس أعدائه من الصهاينة، ينتظرون ما سيقول، ونياط قلوبهم تتمنى أن تمضي الخطبة على خير ولا يصدر منه تهديد يقض مضاجعهم.

– الجانب الروحي في شخصيته، هذا الرجل كان ابرز ما فيه ارتباطه بالله جل وعلا، فلم يفارق لسانه ذكر الله في كل خطبه، وكان الدعاء سلاحه الأول، وكان يوجّه الناس للارتماء دوما في أحضان الدعاء، وكان قدوته في الجهاد سبط رسول الله، الإمام الحسين بن علي، وكان النبي وأهل بيته حاضرين دومًا في حديثه وخطبه وكل حياته، فيستشهد دوما بأقوالهم، ويستن حقا بسيرتهم وأخلاقهم.

هذا التعلق بالله -والذي كان دوما يذكِّرنا بأهميته في حياتنا- هو الذي خلق منه قائدا لا يخاف في الله لومة لائم، قائدا شجاعا مغوارا مقاتلا لا يهادن ولا يصانع، خلق انسانا واضحا في حياته، لا يتلون، ولا يخشى من هذا وذاك اذا تحدث لان نهجه واضح.

هذه الروحانية التي ربى نفسه عليها خلقت منه إنسانا لا طمع له بالعيش الرغيد، ولا هم له بمتاع الدنيا، فكان مصداقا عبر عنه أمير المؤمنين في وصفه للمتقين: “وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها”.

– كان واسع الإطلاع والمعرفة، كثير القراءة، في مختلف المجالات، ويكفيه انه كان يحاضر في موسم محرم ورمضان، وهذا يتطلب تحضيرا ليس بالقليل ولا الهيّن.

وكان رحمه الله يقرأ للعدو، ويحاول فهمه جيدا، وفهم نفسيته، وتفكيره، ليستطيع من خلال هذا الفهم مقاومته والقضاء عليه، واللعب على نفسيته لقهره من خلال استلام المبادرة منه.

– كانت بوصلته واضحة جدا، ففلسطين والقدس كانت هدفه الاساسي، ومرماه الاول والاخير، ولبنان كانت جزءً من هذه البوصلة الواضحة لأن العدو في الموقعين واحد، وتحرير الأرض من هذه الأيادي النجسة كان يراه واجبا شرعيا وانسانيا.

حتى دخول سوريا كان أساسه حفظ لبنان، ولم يدخل سوريا إلا بعد مضي حوالي سنتين من دخول الشراذم، وشذاذ الآفاق، ومردة أهل الكتاب، وفقط حينما بدأوا بالاقتراب من حدود لبنان وشكلوا خطورة عليها، حينها فقط قرر دخول سوريا.

– ولأن البوصلة واضحة، والرؤية مكتملة، فكل خلاف آخر كان يعتبره جانبيا، ولا بد من ردمه وحلّه حتى لا تنحرف البوصلة عن مسارها، وينشغل بخلافات جانبية تستهلكه وتستهلك طاقةً يفترض أن تكون موجهة للعدو.

ولأجل هذه البوصلة تجاوز عن كثير من الصغائر، وتحمل كثيرا من الانتقادات والشتائم وسوء الظن وغيرها، مذكرا إيانا بجده المرتضى، حينما قال: “ووالله لأسلِّمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة”.

السيد حسن نصر الله كان ظاهرة لا تتكرر إلّا نادرا، وكان شخصية قيادية قلما يجود الدهر بمثلها، استطاع بهذه الشخصية الفذة ان يتقدم بحزب الله خطوات عملاقة في أساليبه وتكتيكاته وخططه، وتطوير قدراته التسليحية، والتصنيعية، وإنشاء أنفاق متطورة؛ بل وساعد ونقل السلاح وتقنية تصنيع السلاح والأنفاق الى غزة، ويتمكن من زرع الخوف في كيان تقف معه ووراءه اقوى دول العالم، بل وينتصر عليه مرتين، وليخلق حالة ردع، وتوازن رعب، بحيث لم يتجرأ العدو بعدها للاقتراب من لبنان.

مثّل في تاريخة المشرق كل مفاهيم النُبل والطهارة والسمو، متعاليا عمن كانوا يعادونه بخِسّتهم ودناءتهم وقبح أفعالهم.

هذه الشخصية غادرتنا، وبلا أدنى شك أن الألم يعتصرنا لفراقه، فوجوده لوحده كان يدخل الاطمئنان في النفوس، وظهوره في الشاشة كان يشرح الصدر، وحديثه كان الوحيد الذي ننصت إليه ونصدقه.

نتألم، نتوجع، نكتئب، كل قواميس الدنيا لا تفي بما نحس به، لكن هو من علمنا أن الشهادة هي الحياة التي نريدها، وقد جاءت إليه تريده لأنه يستحقها، ولكي نراه مرة أخرى، علينا السعي لنيلها أيضاً في سوح الكرامة والعزة والدفاع عن الإسلام وعن قضية المسلمين الأولى “القدس”.

وكما وهبنا ربنا السيد نصر الله، سيهب لأجيالنا غيره يكمل المسيرة، ويواصل الدرب حتى ينبلج الصبح وتصل الإنسانية بالجهاد إلى مرفأ النور.

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو جريدة الرؤية العمانية