أسطورة بلوغ ذروة الطلب على الوقود الأحفوري تتهاوى

أسطورة بلوغ ذروة الطلب على الوقود الأحفوري تتهاوى

خلال الأعوام الماضية، ترسّخ لدى صناع السياسات في مجالي المناخ والطاقة قناعة بأن التحول عن الوقود الأحفوري أصبح مساراً حتمياً لا رجعة فيه. لكن المستجدات الأخيرة تشير إلى أن هذا الاعتقاد ليس دقيقاً.

فقد ساد إجماع على أن استهلاك النفط والغاز الطبيعي والفحم سيبلغ ذروته قبل نهاية هذا العقد. وبالرغم من اختلاف التقديرات بشأن وتيرة الانخفاض بعد تلك الذروة، إلا أن الخلاصة كانت واحدة: نهاية عصر الوقود الأحفوري باتت وشيكة. غير أن هذا الافتراض، الذي يشكّل حجر الأساس في مسار الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، لم يعد مؤكداً كما كان يعتقد كثيرون من المدافعين عنه.

سيناريوهات وكالة الطاقة الدولية

التقرير السنوي الذي تعده وكالة الطاقة الدولية، الممثل لرؤى أغنى دول العالم، يظهر بديلاً مختلفاً تماماً؛ إذ يشير إلى عقود إضافية من الاستخدام القوي للوقود الأحفوري، مع نمو في الطلب على النفط والغاز خلال الأعوام الخمسة والعشرين المقبلة. وهذا ليس مجرد احتمال، بل هو أمر مرجح. وهذا يعني مزيداً من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بما يُفاقم أزمة المناخ.

اقرأ أيضاً: هيثم الغيص: صافي الانبعاثات الصفري بين الصخب والواقع 

سيكون من السهل إلقاء اللوم على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المؤيدة للوقود الأحفوري في هذا التحول، لكن ذلك سيكون خطأ؛ فالأمر يسبق توليه المنصب.

الفكرة بأن ذروة الطلب على الوقود الأحفوري باتت وشيكة اكتسبت زخماً كبيراً بفضل وكالة الطاقة الدولية، التي يسعى تقريرها السنوي “توقعات الطاقة العالمية” إلى تصور المستقبل عبر سلسلة من السيناريوهات.

ورغم أن تمرين أعداد السيناريوهات مفيد، إلا أنه بعيد تماماً عن أن توفير تنبؤات دقيقة إذ أنها قائمة على افتراضات مرتبطة بالتطور الاقتصادي ونمو السكان والإرادة السياسية والتطورات التكنولوجية والأسعار. رغم أنها ليست “كرة سحرية “، إلا أن هذه السيناريوهات تقدم رؤى مهمة.

ظلت وكالة الطاقة الدولية تنشر سيناريو أساسياً مبنياً على سياسات اليوم، عُرف باسم “سيناريو السياسات الحالية” (CPS).  لكن النموذج كان يعاني من قصور كبير: فقد قلل تاريخياً من أهمية الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

لذلك، في 2020، أوقفته وكالة الطاقة الدولية جزئياً تحت ضغط من الدول الأوروبية والنشطاء البيئيين. استبدلته الوكالة بـ“سيناريو السياسات المعلنة” (STEPS)، الذي لا يقتصر على السياسات الحالية بل يضيف إليها “المقترحات السياسية، حتى وإن لم تتضح بعد التدابير اللازمة لتنفيذها”. باختصار، كان مزيجاً بين السياسة الحالية والوعود السياسية.

بعد ذلك قدمت سيناريو آخر هو “سيناريو التعهدات المعلنة” (APS)، الذي يفترض تنفيذ جميع السياسات المناخية والطاقة، إلى جانب الطموحات السياسية، بالكامل وفي وقتها المحدد (1).

الطلب على الوقود الأحفوري

قلب هذان السيناريوهان الجديدان المسار المتوقع للطلب على الوقود الأحفوري (وكذلك انبعاثات ثاني أكسيد الكربون) رأساً على عقب، متوقعين بلوغ الاستهلاك ذروته بحلول 2029، ثم بدء تراجعه بوتيرة أبطأ في سيناريو السياسات المعلنة وأسرع في سيناريو التعهدات المعلنة. كان التراجع كبيراً لدرجة أنه منح مصداقية لفكرة أن تريليونات الدولارات من احتياطيات الوقود الأحفوري ستظل “عالقة” بلا استخدام. اقتنع صناع السياسات في الغرب بأن هذه السيناريوهات تمثل شيئاً أشبه بالتنبؤ، وبالتالي أن الطلب سيتراجع حتماً. لكن كثيرين آخرين -ومنهم كاتب هذه السطور- توقعوا استمراراً أقوى في الاستهلاك. شخصياً، أشرت مراراً إلى أن الطلب على الفحم سيكون أكثر صلابة مما يُظن.

اقرأ المزيد: الصين تستهلك وقوداً أحفورياً أكثر في 2023 رغم جهود التحول الأخضر

هذا العام، تعود وكالة الطاقة الدولية لنشر “سيناريو السياسات الحالية” -جزئياً تحت ضغط من إدارة ترمب (2)– ليظهر، خلافاً للاعتقاد السابق، أن الطلب على النفط والغاز لن يبلغ ذروته هذا العقد، وفقاً لـ6 أشخاص اطلعوا على مسودة التقرير (3). وقد تحدثوا جميعاً بشرط عدم الكشف عن هوياتهم. التقرير النهائي قد يتغير.

امتنعت وكالة الطاقة الدولية عن التعليق على الموضوع.

بحسب المسودة، فإن “استخدام النفط والغاز الطبيعي يرتفع حتى 2050”. أما استهلاك الفحم فسيبلغ ذروته في ثلاثينيات القرن الحالي، لكنه بحلول 2050 سيكون أعلى بأكثر من 50% مما كان متوقعاً سابقاً، وفقاً لحساباتي المستندة إلى المسودة.

لقد أصبحت ذروة الاستهلاك “الهدف المنشود” من جدل الطاقة. لكن تحديد السنة التي سيبلغ فيها الطلب ذروته بدقة يعد أقل أهمية بكثير من شكل منحنى الاستهلاك قبل وبعد الذروة. يعتبر التركيز على المسار، بدلاً من النقطة الأعلى، أمر أساسي لفهم إلى أين يتجه العالم.

الطلب على النفط

في حالة النفط، تُظهر المنحنيات في سيناريو السياسات المعلنة الذي عادت له وكالة الطاقة الدولية نمواً مستمراً، حتى في أربعينيات القرن الحالي. صحيح أن معدل النمو السنوي خلال الأعوام الخمسة والعشرين المقبلة سيكون أدنى بكثير مما سُجل تاريخياً، لكن “النفط يظل أكبر مصدر منفرد للطاقة” في منتصف القرن، بحسب ما ورد في المسودة. وتأتي الطاقة المتجددة في المرتبة الثانية، يلهيا الغاز في المرتبة الثالثة، وجاء الفحم في المرتبة الرابعة.

بحلول 2050، تضع الوكالة في سيناريو السياسات الحالية استهلاك النفط عند 114 مليون برميل يومياً، مقارنة بنحو 93 مليون برميل يومياً بحلول 2050 وفقاً لسيناريو السياسات المعلنة المنشور العام الماضي، وأكثر من ضعف الـ54 مليوناً في سيناريو التعهدات المعلنة.

اقرأ أيضاً: أمين عام “أوبك”: الطلب على النفط سيبدد توقعات الوصول إلى الذروة

من المهم التذكير بأن الوكالة ستنشر أيضاً سيناريوهات أخرى تظهر مسارات بديلة، وأن سيناريو السياسات الحالية ليس توقعاً، بل مجرد لمحة حول ما قد يبدو عليه العالم بعد 25 عاماً إذا لم يتغير شيء وظلت الحكومات مكتوفة الأيدي. تاريخياً، كان هذا السيناريو يقلل من أهمية مصادر الطاقة المتجددة ويمنح الأفضلية للمصادر التقليدية مثل النفط والغاز والفحم. ومن ثم، إذا أخذنا التاريخ دليلاً، فقد تكون النتائج خاطئة، وربما بدرجة كبيرة.

دعونا نأمل ذلك. العالم بعيد للغاية عن تحقيق هدف الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، كما نص اتفاقية باريس للمناخ عام 2015. وإذا كان حدسي صحيحاً، فإننا نتجه على الأرجح نحو ارتفاع كارثي بمقدار 3 درجات مئوية.

طلب أقوي وتلوث أكثر

عندما تنشر وكالة الطاقة الدولية السيناريو القديم-الجديد الخاص بها، ستندلع معركة للسيطرة على إيصال مضمون الرسالة للرأي العام. سيعتبر قطاع الوقود الأحفوري، وعلى رأسه السعودية، احتمال الطلب الأقوى على النفط والغاز والفحم تبريراً لموقفه. ربما يكون ذلك صحيحاً. لكن احتمال زيادة التلوث هي أيضاً دعوة للتحرك.

خافير بلاس: استهلاك السعودية ورقة جديدة تحدد ذروة سوق النفط.. تفاصيل أكثر هنا

حالياً، لا ينفذ العالم “تحول الطاقة”، بل “إضافة للطاقة”، إذ تأتي الطاقة المتجددة كإضافة لمزيج الطاقة فوق النفط والغاز والفحم. بغض النظر عن النوايا الحسنة للحفاظ على البيئة، سيبقى هذا الوضع قائماً لسنوات، وربما لعقود، ما لم تفرض الحكومات تغييرات جذرية. هناك فارق بين الأمل وتطبيق السياسات.

هوامش:

(1) نشرت وكالة الطاقة الدولية نموذجاً إضافياً يُعرف بـ”سيناريو صافي الانبعاثات الصفرية بحلول 2050″ (NZE Scenario)، وقد بُني بطريقة مختلفة عن غيره. سيناريو صافي الانبعاثات الصفرية بحلول 2050 هو سيناريو “معياري” وليس “استكشافي”، لأنه مصمم لتحقيق نتائج محددة. ويبدأ بنقطة النتيجة التي يريد تحقيقها ويبني مساراً عكسياً للوصول إليها. 

(2) في مسودة التقرير، قالت وكالة الطاقة الدولية إنه رغم أن من “المغري” وصف سيناريو السياسات الحالية بأنه “العمل كالمعتاد”، فإن ذلك مضلل، محذرة من أن منهجيته تمنح الأفضلية لمصادر الطاقة التقليدية. قد بررت نشره بقولها إن “هناك تركيز كبير في بعض الدول، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، على الحفاظ على الوضع الراهن في الطاقة بدلاً من تغييره”.

(3) أكدت وكالة الطاقة الدولية أنها ستنشر التقرير في الربع الأخير من العام الجاري؛ وعادة ما يصدر في أكتوبر أو نوفمبر.

نقلاً عن: الشرق بلومبرج

أحمد ناجي محرر الأخبار العاجلة بموقع خليج فايف