الذكاء الاصطناعي يغير وجه الاستثمار إلى غير رجعة

الذكاء الاصطناعي يغير وجه الاستثمار إلى غير رجعة

كانت ميزتي كمستثمر على مدى ثلاثة عقود هي البحث الدقيق. لكن الذكاء الاصطناعي جعل ذلك معدوم القيمة.

في عام 1995، قرأت كتابين غيّرا حياتي، هما “المستثمر الذكي” لبنجامين غراهام، وسيرة وارن بافيت لروجر لوينشتاين. كنت مولعاً بالاستثمار القيمي، ولم أكن أكتفي منه. لكن في تلك الأيام، كان الاكتفاء صعباً. كانت بدايات الإنترنت، لذلك لم يكن بإمكاني البحث عن “وارن بافيت” أو “الاستثمار القيمي” عبر ”جوجل“.

أول ما استطعت الحصول عليه كان التقرير السنوي لشركة ”بيركشاير هاثاواي“. كان عليّ أن أبحث عن رقم هاتفها في دليل الهاتف. بعد ذلك، اتصلت عبر خط أرضي وأجابتني سيدة لطيفة بلهجة من الغرب الأوسط، قائلة: “بيركشاير هاثاواي – كيف يمكنني مساعدتك؟”

قلت: “مرحباً، أود أن أطلب نسخة من تقريركم السنوي.” جاء الرد: ”لا مشكلة في ذلك”. أعطيتها عنواني البريدي، فكررته على مسامعي للتيقن، وبعد بضعة أيام تلقيتُ مغلفاً بنياً كان فيه التقرير السنوي، فالتهمتُه قراءةً، واستخدمتُ جدول استثمارات ”بيركشاير“ المُتداولة علناً للبحث عن مواد جديدة – تقارير ”كوكاكولا“ و“غيكو“ و“أميركان إكسبريس“ و“كابيتال سيتيز“ أي الأمور المبادئية- بطريقة مماثلة، من خلال رفع سماعة الهاتف وتقديم طلب شفهي.

ماهو مقصدي من هذا؟

سارت الأمور ببطء. كان اكتساب المعرفة صعباً. كل خطوة في اكتساب المعرفة الاستثمارية تتطلب أياماً، إن لم يكن أسابيع. كان لا بد من تجميع القطع المختلفة بعناية وحصادها باجتهاد.

منذ تلك الأيام الأولى، تعرّفتُ على اجتماعات ”بيركشاير هاثاواي“. لم تكن تُسجّل على يوتيوب أو تُبثّ مباشرةً. لذا، اقتنيت بعض الأسهم فحضرتُها شخصياً. كل ذلك سعياً وراء ميزة استثمارية. نعم – كان هناك عدد قليل من المحظوظين الذين لم يحضروا تلك الاجتماعات وتمكنوا من الانضمام إلى قائمة بريد ويتني تيلسون الإلكتروني الشهيرة، التي لم يتجاوز عدد من تضمهم العشرات آنذاك. لكن هذا كل شيء. كانت المعلومات الباطنية نادرة ومتباعدة زمنياً.

هل يحل الذكاء الاصطناعي محل البشر في وول ستريت؟

لأنني لم أكن أكتفي، حضرتُ أيضاً اجتماعات ”ويسكو“ (Wesco) في باسادينا بولاية كاليفورنيا، مع تشارلي مونغر، واجتماعات صندوق ”سيكويا“ (Sequoia Fund) التي أدارها بيل روان وريك كانيف. في إحدى المرات في اجتماع ”ويسكو“، ذكر مونغر شركة ”تبروير“ في سياق كتاب روبرت سيالديني “التأثير: علم نفس الإقناع”. كنتُ حاضراً، بل أني نظمتُ حفل ”تبروير“ في منزلي لفهم آلية عمل نظام مبيعات الشركة.

في تلك الأيام، كان المستثمرون المحتملون في صندوقي يسألون: “ما هي ميزتك؟” ربما كان السؤال المقصود: “هل لديك مصدر معلومات داخلي؟” أو، بأدب أكبر “ما هي رؤيتك المتنوعة؟” إذا كانت لديّ أي معلومات، فقد كانت مبنية على هذا النوع من الشائعات.

ذلك العالم قد ولّى

على مدار العقد الماضي، تلاشت كثير من تلك المزايا. لم يعد التجول والابتسام والاتصال ضرورياً. لأن تلك الأفكار التي اكتسبتها بشق الأنفس أصبحت تُرسل عبر البريد الإلكتروني وتُغرّد وتُبثّ مباشرةً وتُسجّل على ”يوتيوب“ وعبر البودكاست وغير ذلك. نعم، ما يزال عليك اختيار مصادرك. لكن كان هناك الكثير متاحاً بسهولة في متناول أي محلل.

والآن يأتي الذكاء الاصطناعي. تغيرت طريقة أبحاث الاستثمار في عصر الإنترنت وهي بطيئة جداً مقارنةً مع زلزال برامج نماذج اللغة الكبيرة. قبل ”تشات جي بي تي“ (ChatGPT)، كان ما يزال عليك التحلي بالصبر لجمع وقراءة فسيفساء المصادر. الآن يمكنك ببساطة أن تطلب من ”تشات جي بي تي“ أو ”جيميناي“ (Gemini) أن يتولى كل هذا البحث. يمكن لبرنامج نماذج اللغة الكبيرة تقديم ملخص فوري لكل ما قيل في المجال العام عن شركة ما. ويمكن تحليله فوراً لتقديم أحدث المعلومات حول الموضوع.

هل حل شتاء الذكاء الاصطناعي؟

مع العلم أن برامج نماذج اللغة الكبيرة على حد علمي لا يمكنها توليد أفكار أصلية. لكن طريق الأفكار الأصلية أقصر بكثير والوصول إليها أسهل.

في الماضي، كنت أحرص على السفر إلى كينغز رود في لندن، على أمل أن يُهديني نيك سليب وقيس زكريا من “نوماد” (Nomad) فطيرة كورنيشية مع بعض أفكارهما الأصلية. هناك سمعت نيك يتحدث لأول مرة عن ”مشاركة اقتصاديات الحجم”. اليوم، لم أعد بحاجة لقطع كل هذه المسافة، إلا إذا كان هدفي هو الفطيرة الكورنيشية ورفقة نيك وزاك الرائعة.

لماذا؟ تتوفر العديد من الأفكار الأصلية أو الآراء المتنوعة على الإنترنت، ويمكن لبرامج نماذج اللغة الكبيرة البحث فيها جميعاً، وإضافة مراجع مجموعة واسعة من المصادر الإضافية: منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، وإفصاحات لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، وغيرها. جميع هذه المواد الآن متاحة للعامة.

صحيح أنه ما يزال هناك كثير من مصادر البيانات غير العامة التي لا يمكن لنماذج اللغة الضخمة الوصول إليها. لكن البيانات غالباً ما تتسرب عبر ”سكريبد“ (Scribd) و“ريديت“ (Reddit) و“أركيف“ (arXiv) أو وسائل التواصل الاجتماعي.

حتى لو كانت هذه مجرد بيانات وصفية، يُمكن تجميعها بسهولة. ثم يُمكن لشخص مثلي استخدام حدسه والتحقق من صحة المصادر للتأكد من أن برنامج نماذج اللغة الضخمة لا يهلوس.

ماذا يعني هذا بالنسبة لاستثمار القيمة؟

خلاصة رأيي هي أن العصر الذهبي لاستثمار القيمة قد ولّى تماماً. بفضل برنامج نماذج اللغة الضخمة، لستُ بحاجة إلى محلل مبتدئ: بتكلفة زهيدة.

يمكن لبرنامج نماذج اللغة الضخمة أن يؤدي عملاً أفضل بكثير. وقد ولّى عصر مديري صناديق التحوط الجريئين مثل مايكل شتاينهاردت وجورج سوروس وجوليان روبرتسون.

سيصبح تسعير الأصول أدق. وستُكشف التفاصيل الخفية المتعلقة بأي عمل تجاري، التي تجعله أفضل أو أسوأ مما يبدو عليه بسهولة أكبر. وسيتضاءل العائد على التحليل الأفضل والرؤية الأفضل لأنه سيكون متاحاً للجميع.

يُشبّه العالم والكاتب البريطاني مات ريدلي هذا بتأثير الملكة الحمراء: “يمكننا جميعاً الركض أسرع، ولكن في نهاية المطاف، سنتمكن جميعاً من الوصول إلى برامج نماذج اللغة الضخمة نفسها”. يجب أن يتقلص تشتت عوائد الإدارة النشطة، لتقترب من عوائد المؤشر، حتى بالنسبة للمستثمرين الذين لا يُخفون مؤشراتهم.

كان الناس يسألون: “ما هي ميزتك؟”، لكن لم تعد هناك ميزة. على الأقل، لا شيء واضح لي.

أين ستتدفق الأموال إذاً؟ ما تبقى هو صناديق المؤشرات وجامعو الأصول مثل ”بلاك روك“. ماذا عن صناديق البوتيك الصغيرة المستقلة مثلي؟ يمكننا التمسك بالسلوكيات البشرية الناجحة، وهو ما لا تستطيع صناديق المؤشرات والصناديق الكمية بمؤسساتها الكبيرة وسلوكها المبرمج تقليده. يمكننا الشراء والاحتفاظ، وهو ما يُسمى أحياناً بالمراجحة الزمنية.

وارن بافيت الذي لم يغلبه أحد في تحقيق الأرباح

سأستمر بالتأكيد في الاستثمار في الشائعات، والتحقق عبر برنامج نماذج اللغة الضخمة ومكالمات الخبراء وما شابه. لكنني أعلم أن ذلك قد يكون بلا جدوى، لأن الجميع قادر على ذلك. أتوقع أن ينصب تركيزي على بناء أفضل العلاقات، والاستثمار في الشركات التي تستثمر هي نفسها في علاقات أفضل.

لهذا، لا أجد مثالاً أفضل من ”بيركشاير هاثاواي“ – بعدد مساهميها الهائل. إنها مجموعة كبيرة ممن لديهم خبرة عملية بأن الشراء والاحتفاظ على المدى الطويل، بدلاً من التقلب والتغيير، هو السبيل الأمثل للاستثمار. هذا سيمنح خليفة بافيت، غريغ أبيل، بيئة أفضل بكثير لتخصيص رأس المال – تماماً كما ينبغي أن توفر لي قاعدة مستثمري نفس الشيء. أعلم أن الخيارات المتاحة محدودة، لكنها كافية لمن تبقى منا.

إذا كان كل ما يفعله الذكاء الاصطناعي وبرنامج نماذج اللغة الضخمة في مجال التمويل هو تحقيق تكافؤ الفرص – أي تهميش أسياد العالم (والراغبين في الهيمنة مثلي) – فهل سيكون ذلك أمراً سيئاً؟ على الأرجح لا.

بفضل الذكاء الاصطناعي، أصبح المجال أكثر تكافؤاً من أي وقت مضى. الآن، وأكثر من أي وقت مضى، لم يعد المستثمر العادي بحاجة إلى دفع رسوم باهظة. من أهم فوائد سوق الأسهم إضفاء الطابع الديمقراطي على التمويل. ربما، حل ذلك اليوم أخيراً بفضل الذكاء الاصطناعي.

نقلاً عن: الشرق بلومبرج

أحمد ناجي محرر الأخبار العاجلة بموقع خليج فايف