
في 22 سبتمبر، نصح الرئيس دونالد ترمب النساء الحوامل بتجنب تناول “تايلينول”، قائلاً إن مُسكن الألم قد يكون مرتبطاً بالتوحد، ولم يقدّم ترمب أي دليل علمي يدعم توصيته، كما لا توجد علاقة واضحة بين استخدام “تايلينول” أثناء الحمل والنتائج السلبية على السلوك العصبي أو النمو مثل التوحد.
في اليوم نفسه الذي أدلى فيه ترمب بتصريحاته، أصدرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية إشعاراً للأطباء بشأن ما وصفته إدارة ترمب بأنه مخاطر استخدام “تايلينول” أثناء الحمل، مع الإشارة إلى أنه “لم يثبت وجود علاقة سببية” بين التوحد ومادة الأسيتامينوفين أو الـ”باراسيتامول”، وهي العنصر الفعّال في “تايلينول”.
ويُعد إعلان ترمب أحدث مثال على كيفية سعيه هو ووزير الصحة والخدمات الإنسانية روبرت ف. كينيدي الابن إلى تقويض الإرشادات والممارسات الصحية الراسخة، بما في ذلك الاستناد إلى نظريات غير مثبتة ومكذوبة لانتقاد سياسات لقاحات الأطفال.
وإليكم ما تقوله الأبحاث العلمية بشأن ما إذا كان هناك ارتباط بين “تايلينول” والتوحد:
ماذا تقول الأبحاث عن العلاقة بين التوحد والـ”باراسيتامول”؟
كانت نتائج الدراسات متفاوتة، والأهم من ذلك أن الأبحاث التي تناولت العلاقة بين التوحد والأسيتامينوفين لم تعتمد على تجارب مضبوطة، بل على دراسات رصدية، حيث يجمع الباحثون بيانات عن مجموعة من الأشخاص ويحاولون ربط خصائص معينة لديهم بنتيجة محددة.
ونظراً لأن العديد من العوامل الأخرى يمكن أن تؤثر على النتائج، فإن قدرة هذه الدراسات على تحديد العلاقة السببية محدودة. وغالباً ما تكون نتائجها غير قابلة للتكرار.
وجدت دراسة نُشرت عام 2008 أن استخدام الأسيتامينوفين لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 شهراً عند الإصابة بالحمّى كان مرتبطاً بتشخيص اضطراب طيف التوحد، إلا أن الدراسة لم تتوصل إلى استنتاج قاطع، ودعا الباحثون إلى مزيد من التحليل.
وفي عام 2019، ربطت دراسة من كلية “بلومبرغ للصحة العامة” التابعة لجامعة جونز هوبكنز التعرّض للدواء داخل الرحم بالإصابة بالتوحد. (تُموّل هذه الكلية من قبل مايكل بلومبرغ، مؤسس “بلومبرغ” ومالكها الرئيسي).
وفي عام 2024، حلّلت دراسة واسعة سجلات 2.5 مليون شقيق وشقيقة وُلدوا في السويد على مدى 25 عاماً، ووجدت أنه لا توجد زيادة في خطر الإصابة بالتوحد لدى الأطفال الذين تناولت أمهاتهم الأسيتامينوفين أثناء الحمل.
في وقت سابق من العام الجاري، خلُصت مراجعة شملت 46 دراسة سابقة إلى أن التعرّض للأسيتامينوفين قبل الولادة قد يزيد من خطر الإصابة باضطرابات النمو العصبي، لكنها لم تجد دليلاً على أنه يسبب هذه الاضطرابات بشكل مباشر.
وكان أحد مؤلفي تلك الدراسة، أندريا باكاريللي، عميد كلية “تي إتش تشان للصحة العامة” التابعة لجامعة هارفارد، قد أدلى بشهادته كخبير لصالح المدّعين الذين زعموا أن التعرّض لـ”تايلينول” قبل الولادة تسبب في إصابة أطفالهم بالتوحد.
استُبعدت شهادة باكاريللي من قبل قاضٍ، كتب في حيثيات قراره أن باكاريللي لم يستخدم “درجة كافية من الدقة” في قياس العلاقة بين التعرّض للأسيتامينوفين داخل الرحم واضطرابات النمو العصبي. وخلص القاضي إلى أن المدّعين في أكثر من 400 دعوى قضائية مرتبطة بالأسيتامينوفين استندوا إلى أساس علمي معيب.
وتُشير شركة “كينفيو” (Kenvue Inc)، المصنعة لـ”تايلينول”، إلى ما تصفه بـ”أساس علمي مستقل وسليم” يُظهر أن الأسيتامينوفين لا يُسبب التوحد.
هل ارتفعت معدلات تشخيص التوحد؟
نعم، وجدت دراسة نُشرت عام 2024 أن معدل تشخيص التوحد ارتفع بنسبة 175% خلال عقد، ويُعزى ذلك جزئياً إلى التوسّع في التعريف الوارد في نسخة عام 1994 من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية”، والذي شمل متلازمة أسبرجر. كما يعكس هذا الارتفاع تزايد الفحوصات التشخيصية، لا سيما بين البالغين الشباب وليس فقط الأطفال الصغار.
أظهرت دراسة صادرة عن المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها أن واحداً من بين كل 31 طفلاً في الثامنة من العمر تم تشخيصه بالتوحد عام 2022. كما أن احتمال تشخيص التوحد لدى الذكور يزيد بثلاث مرات مقارنة بالإناث.
ما التوصيات الحالية للنساء الحوامل؟
عادةً ما تُنصح النساء الحوامل بتناول الأسيتامينوفين لعلاج الألم أو الحمى، على أن يُستخدم بأقل جرعة فعّالة ولأقصر مدة ممكنة. وبالنسبة للكثيرات، يُعد هذا الخيار الوحيد لعلاج تلك الحالات، إذ يجب على الحوامل تجنّب تناول الإيبوبروفين وغيره من مضادات الالتهاب غير الستيرويدية، نظراً لأنها قد تُسبب مشكلات في الكلى لدى الجنين وانخفاضاً في مستويات السائل الأمنيوسي.
قالت الكلية الأميركية لأطباء التوليد وأمراض النساء إن الأسيتامينوفين يُعد من بين مسكنات الألم القليلة الآمنة للنساء الحوامل، وشددت على أن المريضات لا يجب أن “يُصبن بالذعر” من تناول هذا الدواء.
وفي 22 سبتمبر، أصدرت “وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية” في المملكة المتحدة بياناً أكدت فيه مجدداً أن “الباراسيتامول” وهو الاسم المعروف به الدواء خارج الولايات المتحدة آمن للاستخدام أثناء الحمل، وأنه لا توجد أدلة على أنه يُسبب التوحد لدى الأطفال.
ما هي مخاطر الإصابة بالحمّى أثناء الحمل؟
في تصريحاته في 22 سبتمبر، اقترح الرئيس ترمب أن على النساء الحوامل استخدام “تايلينول” للسيطرة على الحمى فقط إذا لم يستطعن “تحمّلها”، لكن الإصابة بالحمّى أثناء الحمل تزيد من احتمالات حدوث عيوب خلقية خطيرة وأحياناً قاتلة، من بينها السنسنة المشقوقة (spina bifida). كما أنها ترفع من فرص حدوث الإجهاض.
قال ديفيد مانديل، عالم الأوبئة في جامعة بنسلفانيا والمتخصص في دراسة التوحد، إن إلقاء اللوم على الأسيتامينوفين في التسبب بالتوحد قد يُعرّض صحة النساء للخطر. وأضاف: “أنا قلق جداً من أن النساء الحوامل اللواتي يُصبن بالحمّى قد يتركنها دون علاج”.
ماذا قال وزير الصحة الأميركي عن التوحد؟
لطالما روج وزير الصحة الأميركي، روبرت إف. كينيدي جونيور، لفكرة أن اللقاحات تُسبب التوحد، وهي نظرية مكذوبة تعود إلى ورقة علمية احتيالية جرى سحبها في عام 2010. وجرد “المجلس الطبي العام” في المملكة المتحدة مؤلف الورقة، أندرو ويكفيلد، من رخصته الطبية بسبب عمله “غير النزيه” و”غير المسؤول”.
بحلول ذلك الوقت، كان بعض الآباء قد تبنّوا فكرة أن اللقاحات هي المسؤولة عن الارتفاع في معدلات تشخيص التوحد، وفي أبريل، بعد شهرين من توليه منصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية، أفادت الوزارة بأن واحداً من بين كل 31 طفلاً قد تم تشخيصه بالتوحد حتى عام 2022. وقال كينيدي إن ترمب طلب منه البحث عن الأسباب الجذرية للعديد من أمراض الطفولة، بما في ذلك التوحد.
كانت هناك في الآونة الأخيرة بعض الدعوات من مؤيدي كينيدي بشأن المخاطر المزعومة للأسيتامينوفين. فقد نشرت الناشطة اليمينية لورا لومر منشوراً على منصة “إكس” (X) في 2 سبتمبر، تكهّنت فيه بوجود رابط محتمل. كما أن منظمة “الدفاع عن صحة الأطفال”، وهي جماعة مناهضة للقاحات أسسها كينيدي، تكهّنت بشأن هذا الرابط في 15 سبتمبر الجاري.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج