الحسكة.. أم الحقول التي صنعت تاريخ النفط السوري

من يريد أن يفهم قصة النفط السوري، لا يحتاج أن ينظر أبعد من محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق البلاد. هذه البقعة، الغنية بالحقول الكربوناتية العملاقة والاحتياطيات المؤكدة، لطالما شكّلت القلب النابض لإنتاج الطاقة في سوريا. فمنها تدفق النفط عبر شبكة من الحقول العملاقة مثل السويدية وكراتشوك ورميلان، ومنها كانت تُضخ الإمدادات إلى مصفاتي حمص وبانياس التي غذّت الاقتصاد لعقود.
تقع المناطق الأساسية لإنتاج النفط السوري في هذه المحافظة. ولأهميتها، سأفصّل في هذا المقال أبرز المناطق النفطية فيها. فالحسكة اليوم ليست مجرد خزان للنفط، بل مسرح لصراع معقد بين الدولة السورية، القوى الكردية، العشائر العربية المحلية، إلى جانب شركات أجنبية تركت وراءها عقوداً من الاستثمار والبنية التحتية، وسكاناً دفعوا ثمن التلوث والأمراض المزمنة الناتجة عن عقود من الاستثمار النفطي. وهذه المحافظة تجسد أكثر من غيرها معضلة النفط السوري: وفرة في الثروة يقابلها عجز في الإدارة، وصراع سياسي يختلط فيه المحلي بالإقليمي والدولي.
من يستثمر النفط السوري في الحسكة؟
أهم المناطق الأساسية لإنتاج النفط في سوريا تقع شمال شرق محافظة الحسكة وتستثمر فيها الشركات التالية:
الشركة السورية للنفط (حكومية): ويتبع لها حقول (السويدية، كراتشوك، رميلان، عليان، حمزة، ليلان، بدران، سازابا) وكانت تنتج حوالي 180 ألف برميل يومياً عام 2011.
شركة دجلة: وهي مشتركة بين المؤسسة العامة للنفط وشركة غالف ساندز البريطانية. وتدير استكشاف و تشغيل حقول اليوسفية وشرق خربت. وكانت تنتج حوالي 23 ألف برميل يومياً عام 2011.
شركة عودة: وهي مشتركة بين المؤسسة العامة للنفط وشركة سينوبك الصينية. وتدير تطوير حقل عودة وكانت تنتج حوالي 10 آلاف برميل يومياً عام 2011.
يتم تجميع الخام النفطي في محطة (تل عدس) ومنها يتم ضخ النفط إلى مصفاتي حمص وبانياس قبل عام 2011
أهم الحقول
1- حقل السويدية: “درة حقول النفط السورية” كما أسميه. وهو أكبر حقول النفط المنتجة في سوريا، ويُصنّف ضمن الحقول الكربوناتية العملاقة على مستوى العالم باحتياطي جيولوجي يزيد على 8 مليارات برميل من النفط. تبلغ أبعاد الحقل 12/25 كم والمساحة النفطية الفعالة بحدود 186كم مربع والسماكة الأعظمية للطبقة المنتجة 340م.
نوعية النفط المنتج متوسط اللزوجة حوالي 24 درجة بمقياس الجودة الأميركية. وضع بالإنتاج عام 1968 حيث تم إنتاج 1.34 مليون متر مكعب من النفط في ذلك العام. وكان عدد الآبار العاملة 22 بئراً. ثم بدأ الإنتاج بالتزايد حتى وصل إلى الإنتاج الأعظمي عام 1975 حيث بلغ الإنتاج 8.287 مليون متر مكعب. ثم انخفض بالتدريج ووصل إلى 4.685 مليون متر مكعب في عام 2001 حيث بلغ عدد الآبار العاملة 685 بئراً؛ منها 114بئراً أفقية و571 بئراً عمودية.
2- حقل كراتشوك: ثاني أهم الحقول السورية وأولها اكتشافاً على يد شركة “نجيب منهل” الأميركية وينتج النفط من 115 بئراً باحتياطي قدره قرابة 163 مليون متر مكعب من النفط متوسط اللزوجة عند 20 درجة بمقياس الجودة الأميركية.
3- حقل الرميلان: ينتج النفط من 56 بئراً منتجةً؛ ويضم المدينة العمالية المشغلة للحقول العائدة لمديرية حقول الحسكة ويحوي مطاراً زراعياً تستخدمه القوات الأميركية حالياً.
4- حقل عودة: كانت شركة “دبلن” الكندية التي فازت بعقد تطوير حقل “عودة” قرب ناحية القحطانية شرق مدينة القامشلي عام 2003 الذي توجد فيه 18 بئراً عاملة وتبلغ طاقة إنتاجه اليومي 1500 برميل يومياً من النفط الثقيل. قامت الشركة باستخدام الطرق الحديثة لاستثمار النفط الثقيل من خلال حفر آبار داعمة وحقن البخار الساخن في الخزان النفطي لخفض لزوجة النفط لترتفع كفاءة الإنتاج ليصل إلى 10 ألف برميل يومياً عام 2007. بعد مشكلات فنية وإدارية وانخفاض الجدوى الاقتصادية تخلت الشركة عن الحقل لتحل شركة “سينوبك” الصينية محلها.
5- حقل دجلة (اليوسفية وشرق خربت): وتديره شركة “غلف ساندز” البريطانية التي حصلت على عقد التنقيب في البلوك 26 شمال شرق سوريا؛ وهو أفضل بلوك طرحته الحكومة السورية للتنقيب لوقوعه ضمن أهم المناطق النفطية السورية حيث بدأت أنشطة الاستكشاف فيها عام 2005. وقد نفذت الشركة دراسات ومسوحات زلزالية ثنائية وثلاثية الأبعاد على مساحات واسعة أدت إلى اكتشاف النفط في حقل شرق خربت عام 2008 وحقل اليوسفية عام 2010 باحتياطيات 182 مليون برميل. وقد وصل إنتاج النفط اليومي من هذه الحقول إلى 25 ألف برميل من النفط الخام يومياً عام 2012 من 22 بئراً منتجةً.
وضع الحقول بين عامي 2011 و2025
حقول الشركة السورية للنفط: في أبريل 2012 وقعت الحكومة السورية عقد حماية للمنشآت النفطية مع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي لضمان استمرار تدفق النفط من محطة تل عدس في الحسكة. وقد بدأ العمل على تشغيل مجموعة آبار للاستفادة من الغاز المرافق.
في المرحلة الأولى، جرى اختيار نحو 100 بئر من حقلي السويدية ورميلان ذات الضغط الغازي المرتفع، حيث افتُتح في سبتمبر 2014 معمل الغاز المصاحب في السويدية. لكن سرعان ما أُغلقت معظم الآبار المنتجة، فانخفض الإنتاج إلى نحو 1500 برميل يومياً يُنقل بالصهاريج. بالتوازي مع ذلك، نشط تكرير بدائي عبر “الحراقات”. اعتمدت هذه العمليات على فتح الآبار المغلقة دون وسائل حماية كافية، وتخزين الخام في حفر مفتوحة ثم تقطيره للحصول على الديزل، في ممارسات تسببت بأضرار واسعة للأراضي الزراعية والمياه الجوفية والسطحية، فضلاً عن مخاطرها المسرطنة على العاملين.
مع بداية 2020 مع استقرار الأمور نسبياً بيد القوات الكردية “الإدارة الذاتية” ارتفع الإنتاج ليبلغ 85 ألف برميل يومياً بالإضافة إلى نصف مليون متر مكعب من الغاز يومياً من 250 بئراً تقريباً في رميلان والسويدية وكراتشوك، بالإضافة إلى المشتقات البترولية المنتجة من مصافٍ كهربائية باستطاعات تكريرية منخفضة استوردتها الإدارة الذاتية.
حقل عودة: نتيجة لتدني نوعية النفط ولزوجته العالية بقيت آبار هذا الحقل مغلقة إجمالاً.
حقل دجلة (اليوسفية وشرق خربت): معظم آبار هذه الحقل تقع ضمن أراضٍ تسيطر عليها قوات “الصناديد” التابعة لقبيلة شمر العربية والمتحالفة مع القوات الكردية ضمن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. كانت هناك محاولات لضخ النفط من 4 آبار بشكل غير نظامي من قبل أصحاب الحراقات مما تسبب بإحراق بئرين، ولكنها حالياً مغلقة.
يبقى نفط الحسكة ورقة ضغط حاسمة في المشهد السوري
الحسكة.. مرآة معضلة النفط السوري
منذ اكتشاف أول بئر وحتى اليوم، لم يتغير جوهر القصة: النفط السوري وفير، لكن إدارته غائبة. وتظل الحسكة المرآة الأوضح لهذه المعضلة، حيث تختلط الثروة بالسياسات المتناقضة، وتتقاطع فيها الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، مانعةً استثمارها على النحو الأمثل.
يبقى نفط الحسكة ورقة ضغط حاسمة في المشهد السوري، لا يمكن لأي طرف محلي أو إقليمي تجاوزها. ومع استمرار الانقسام، يظل النفط السوري رهينة توازنات سياسية معقدة قد ترسم ملامح المستقبل بأكمله.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج