كيف تخسر واشنطن لعبتها التجارية؟

كيف تخسر واشنطن لعبتها التجارية؟

في عهد دونالد ترمب، انعطف العالم بحدة نحو مبدأ تشجيع الصادرات وتقييد الواردات الذي يعود إلى القرن السابع عشر، وهي سياسة تسمى ”المركنتايلية“ ومفادها أن التجارة لعبة محصلتها صفر، إذ يجب على الدول أن تحقق الاكتفاء الذاتي وأن تركز على التصدير أكثر بكثير من الاستيراد.

نجح هذا المبدأ مع لويس الرابع عشر وغيره من الإمبراطوريات الأوروبية المبكرة، ويهدف مبدأ “أميركا أولاً” إلى إعادة تطبيقه، بحيث تكون الولايات المتحدة هي المنتصرة هذه المرة.

رداً على ذلك، طوّر آدم سميث مبدأ الأسواق الحرة. حسب تعبير جورج ماغنوس من مركز الصين بجامعة أكسفورد، فقد “رأى أن تركيز (المركنتايلية) على اقتناء الذهب والفضة، وما يرتبط بذلك من قمع للواردات وتشجيع للصادرات، يتعارض مع تراكم الثروة للمواطنين”.

محررو بلومبرغ: رسوم يوم التحرير غلطة وفاتورتها ثقيلة

أحيت فلسفة سميث حالة الليبرالية التي سادت الغرب لمعظم القرن الماضي. وكان هدف الرسوم الجمركية التي فُرضت في الثاني من أبريل، يوم التحرير كما سماه ترمب، هو إعادة بناء العالم الذي كان سميث يعارضه. منذ ذلك الإعلان، الذي فرض حواجز تجارية أعلى بكثير مما كان متوقعاً، جلب تقدّم المذهب التجاري الجديد مفاجأتين.

 أولاً، على الرغم من رد الفعل السوق المرتبك في البداية، بقيت الرسوم الجمركية سارية بنفس مستوياتها تقريباً، بل إنها ارتفعت على دول مهمة كالهند والبرازيل. ثانياً، لم يأت أحد تقريباً بردة فعل. لقد رضخ العالم لترجيح شروط التجارة بشكل حاد لصالح الولايات المتحدة.

هل من لاعبين آخرين؟

حتى الآن، يبدو هذا انتصاراً ساحقاً لـ”أميركا أولاً“، لكنه يتجاهل عاملاً حاسماً واحداً. هناك دولة واحدة تمارس هذا المذهب منذ عقود، وهي بارعة فيه جداً، ويبدو أنها متقدمة بخطوة على الولايات المتحدة التي بدأت تلعب اللعبة نفسها. إنها الصين.

يجادل ماغنوس من جامعة أكسفورد بأن الولايات المتحدة ترد متأخرة على المسار الذي شقته الصين منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن على الأقل. بمجرد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية أواخر عام 2001، يقول ماغنوس بأن المنظمة سرعان ما اكتشفت عدم قدرتها أوإعدادها لتبقيها ملتزمةً بالضوابط:

اشتملت المسيرة الطويلة، كما يُمكننا أن نُسميها، للسياسات الصناعية على مجموعة مبادرات شملت وضعاً خاصاً للمؤسسات الحكومية، ودعماً ومنحاً وإقراضاً مباشراً والاقتراض بأقل من سعر السوق، والائتمان المُوجه من الدولة وسياسات نقل التقنية والمشتريات، وكلها ساهمت في تعزيز مكانة الصين كـ”اقتصاد غير سوقي”.

أدى ذلك إلى عواقب باتت معروفة للجميع الآن. سمحت الصين لعملتها بالارتفاع بثبات منذ عام 2005، بعد أن أبقت سعرها مُنخفضاً بشكل مصطنع لفترة طويلة، لكن تراجع التصنيع استمر بوتيرة مُتسارعة في الولايات المتحدة، مُسبباً مشاكل اجتماعية خطيرة، وفي النهاية، رد فعل سياسي عنيف عبر انتخاب دونالد ترمب.

الأميركيون سيدفعون ثمن رسوم ترمب قريباً

لقد انتقلت الصين بثبات من الصناعات الأساسية الرخيصة جداً التي بدأت صعودها، وتنازلت عن هذا العمل لدول ناشئة أخرى مثل فيتنام وبنغلاديش. كما واجهت الصين مشكلةً مع تخفيضٍ أخرقٍ لقيمة عملتها في عام 2015، الذي هدد لفترةٍ وجيزةٍ بدفع العالم إلى أزمةٍ مالية.

انكمش ميزانها التجاري بأكثر من 40%، من 600 مليار دولار إلى أقل من 400 مليار دولار، بين عامي 2015 و2018. لكن حتى مع سعيها للانتقال إلى اقتصادٍ يعتمد على الاستهلاك بدلاً من التصدير، فإنها ما تزال تمارس لعبة ”المركنتايلية“ ببراعةٍ لا مثيل لها.

منذ عام 2018، تضاعف ميزانها التجاري ثلاثة أضعاف، دون عوائق من الرسوم الجمركية الأميركية. ويبلغ الآن مستوىً قياسيًا، أقل بقليل من 1.2 تريليون دولار.

ذروة رغم الرسوم

حتى فيما تتحادث فيه الدولتان للتوصل إلى علاقةٍ عملية، تُعاني الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة من رسومٍ جمركيةٍ باهظةٍ بنسبة 57%. وليس مُستغرباً أن تنخفض بمقدار الربع تقريباً عن ذروتها قبل ثلاث سنوات.

مع ذلك، بلغ إجمالي الصادرات إلى جميع الدول (بما فيها الولايات المتحدة) حتى الآن هذا العام أعلى مستوياته على الإطلاق. كان الرد على السياسة التجارية الأميركية الجديدة هو التصدير إلى كل مكان بأسعار لا تُضاهى، ما يسميه خبراء السياسة التجارية “إغراقاً”.

الصين تغرق العالم بصادرات رخيصة بعد رسوم ترمب

على مر سنين، اتُهمت الصين بتصدير الانكماش إلى بقية العالم. سمحت الواردات الرخيصة للاقتصاد الأميركي بالازدهار دون إحداث تضخم. أما الآن، فهي تُصدر فعلياً “النكوص” – وهو الاسم الذي أطلقته السلطات الصينية على المنافسة المدمرة والطاقة الإنتاجية الفائضة التي تُعيق كثيراً من صناعات البلاد.

إحدى طرق التعامل مع وفرة المنتجات، المُصنّعة بهوامش ربح غير اقتصادية، هي إغراق بقية العالم بها. هذا ما تفعله الصين بكفاءة كبيرة، على الرغم من أن الحمائية أغلقت السوق الأميركية أمامها.

هذا تطور جديد. بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، ارتفعت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بما يتماشى تقريباً مع إجمالي صادراتها العالمية خلال معظم العقدين الماضيين. بحلول عام 2019، ارتفعت بنسبة 852%، بينما ارتفعت التجارة مع جميع الدول بنسبة 849%. لكن الجائحة، ورسوم ترمب الجمركية الجديدة، التي أصر عليها بايدن، غيّرت ذلك.

من يقود إعادة تشكيل المشهد؟

يحاجج نيل شيرينغ، كبير الاقتصاديين في ”كابيتال إيكونوميكس“ (Capital Economics) في لندن، بأن أكبر القوى التي تعيد تشكيل التجارة العالمية اليوم تنبع من بكين، وليس من واشنطن.

إن جهود الصين لتصدير فائض طاقتها الإنتاجية وتعويض خسارة تجارتها الأميركية قد تُسبب مشاكل أكبر حتى من حملة رسوم ترمب الجمركية الثانية.

يقارن هذا بالطريقة التي تعاملت بها الصين مع الرسوم التجارية التي فرضتها إدارة ترمب الأولى. كان حلها الرئيسي آنذاك هو توجيه الصادرات عبر دول ثالثة مثل فيتنام والمكسيك.

أما هذه المرة، فحتى الآن، كانت إعادة توجيه الصادرات أقل بكثير. تشير تقديراتنا إلى أن حصة صادرات الصين المتجهة إلى الولايات المتحدة قد انخفضت بنحو 4 نقاط مئوية هذا العام، بينما زادت حصة الصادرات غير المباشرة إلى الولايات المتحدة بنسبة 0.5 نقطة مئوية فقط. بمعنى آخر، لم يُعوّض سوى حوالي ثُمن الانخفاض بإعادة توجيه الصادرات.

في عام 2018، وصل ما يصل إلى ثلث الانخفاض في الصادرات الصينية المباشرة إلى الولايات المتحدة عبر طرق غير مباشرة. لكن دولاً مثل المكسيك لم تكسب الكثير من هذا، وتُخاطر بإثارة غضب أميركا.

الرسوم الجمركية لن تعيد الصناعة لأميركا لكن استلهام الوصفة الصينية قد ينجح

لذا، حتى قبل عودة ترمب إلى السلطة، شرعت الصين في سياسة إغراق بديلة. خلال الاثني عشر شهراً التي بدأت في أكتوبر 2022، عندما بدأت بكين برفع قيود ”كوفيد-19“ شديدة الصرامة وحاولت إعادة بناء اقتصادها، انخفضت أسعار الصادرات الصينية بنسبة 22%. في حين ظلت الأسعار في أماكن أخرى مستقرة بشكل عام.

نزعة ”الميركنتايلية“ فلسفة رجعية. وهذا وصفٌ مُنصف لهدف ترمب المتمثل في إعادة وظائف التصنيع إلى الولايات المتحدة، ووضع حواجز تجارية ضد الدول التي تُمثل البضائع الأساسية الرخيصة مثل القمصان صادراتها الرئيسية. الهدف هو العودة إلى حقبة سابقة من العظمة الأميركية.

لكن النزعة ”الميركنتايلية“ الصينية الجديدة تتطلع إلى المستقبل بوضوح. يشير كريس واتلينغ، الرئيس التنفيذي لشركة ”لونغفيو إيكونوميكس“ (Longview Economics) في لندن، إلى هيمنتها في سلسلة من الصناعات المتنامية الحيوية. في العام الماضي، أنتجت الصين أكثر من 70% من المركبات الكهربائية في العالم، و92% من الخلايا الشمسية العالمية، و98% من رقائق الطاقة الشمسية، و85% من الألواح الشمسية، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.

كما أنتجت أكثر من ثلاثة أرباع جميع البطاريات المباعة عالمياً، إذ انخفضت أسعار البطاريات الصينية بنحو 30%.

التوترات التجارية مع الصين تنعش إنتاج بطاريات تستخدم الملح

تتعرض منتجات كهذه لمنافسة شرسة في الصين، مع ازدحام الوافدين الجدد في قطاعات ناشئة ومثيرة للاهتمام. وقد أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار وتآكل أرباح الشركات، ودفع الحكومة إلى إطلاق حملتها “لمكافحة النكوص”. إن المصير الواضح لوفرة المنتجات الرخيصة غير الاقتصادية هو إغراق بقية العالم بها. وهذا قد يعزز هيمنة الصين العالمية على هذه القطاعات.

تتمسك الولايات المتحدة في عهد ترمب بوجهة النظر القائلة بأن الطاقة الخضراء “خدعة”. ويجدر بها أن تكون محقةً في هذا، إذ ستواجه هزيمة نكراء للنزعة التجارية إذا كان الوقود الأحفوري في طريقه إلى الزوال. حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن الصين تُرسي ميزة حاسمة في الوصول إلى الطاقة الرخيصة. كما يقول واتلينغ، أصبحت تكلفة إنتاج الكهرباء في الصين الآن أقل من نصف تكلفة إنتاجها في الولايات المتحدة.

إن النزعة ”الميركنتايلية“ هي السائدة في العالم. لكن الأميركيين ليسوا أفضل اللاعبين في هذه اللعبة الجديدة، إذ أن الصين لديها أكثر الممارسين التجاريين خبرةً في العالم، ويُرجح أن يستفيدوا أكثر من أي أحد آخر من النظام الذي تقيمه الولايات المتحدة.

نقلاً عن: الشرق بلومبرج

أحمد ناجي محرر الأخبار العاجلة بموقع خليج فايف