على البنك المركزي أن يشرح قراراته مبسطةً لئلا بفقد مصداقيته

أنا أُصدّق جيروم باول عندما يقول إنه وزملاءه في الاحتياطي الفيدرالي مُصمّمون على إعادة التضخم إلى 2% وهو مستهدف المجلس. وأنا متأكد من أنهم يُدركون أهمية تصديق الناس لهذا الوعد، وأي شك حيال هذا الأمر سيصعب مهمتهم بشدة. لذا مع تغيّر الظروف، عليهم شرح تعديلات السياسة النقدية بطريقة تضفي صدقية على الالتزام بدلاً من التشكيك فيه.
يمثل هذا تحدياً كبيراً، خاصةً في ظل تعرض الاقتصاد لصدمات من جهات مُختلفة. يوضح التخفيض الأخير في سعر الفائدة، وما تلاه من نقاش حول تفكير الاحتياطي الفيدرالي، هذه المُشكلة. كان التخفيض منطقياً، وكان مُمكناً شرح أسبابه ببساطة. لكن التفسير الفعلي كان مُعقّداً بلا داعٍ، ونتيجةً لذلك جزئياً أقلّ إقناعاً. إنّ هذا التعقيد المُفرط، من خلال طمس الرسالة، يُخاطر بزعزعة التوقعات.
كان ممكناً أن يكون التفسير الأبسط كالتالي:
تماشياً مع هدفنا للتضخم البالغ 2% وتقديرنا لنمو الناتج بنسبة تقارب 2%، نرغب في أن نرى زيادة في الطلب بنسبة تقارب 4% سنوياً. لقد كان الطلب ينمو بوتيرة أسرع من ذلك، لكنه يتباطأ تدريجياً، ونعتقد أنه سيستمر في التباطؤ بوتيرة مناسبة مع خفض سعر الفائدة إلى ما بين 4% و4.25%. إذا لم يتباطأ كما نتوقع، فسنرفع سعر الفائدة؛ وإذا تباطأ بشكل مفاجئ جداً، فسنخفضه مجدداً.
قارن هذا بالتفسير الفعلي. وأنا لست أنقل حرفياً هنا:
هناك كثير من العوامل المتغيرة، ما يجعلنا في حيرة من أمرنا. بناءً على كيفية قياسه، يبدو أن التضخم عالق فوق هدف 2%. الرسوم الجمركية تدفع الأسعار إلى الارتفاع بأقل مما توقعه الكثيرون في الوقت الحالي، ولكن المزيد آت.
من ناحية أخرى، يرجح أن يكون هذا الارتفاع في التضخم قصير الأجل. في الوقت نفسه، يشهد سوق العمل تباطؤاً. ما زلنا عند مستوى التوظيف الكامل، لكن ربما ليس لفترة طويلة إذا لم نعدّل سعر الفائدة.
يصعب الجزم بذلك، لأن أرقام الوظائف متذبذبة، ويعود ذلك جزئياً إلى حملة مكافحة الهجرة. قد يؤدي تزايد عدم اليقين إلى انخفاض الاستهلاك والاستثمار. ومع ذلك، تشهد أسعار الأصول ارتفاعاً حاداً. بشكل عام، تغير ميزان المخاطر على الشرط المزدوج (التشغيل الكامل وانخفاض التضخم)، ما يشير إلى خفض سعر الفائدة. لكن كونوا مطمئنين، فبعد هذا الخفض الطفيف، ستظل السياسة النقدية مقيدة بشكل طفيف ومناسب، بناءً على موقفنا من “سعر الفائدة المحايد” الذي لا يزيد الطلب ولا ينقصه. بالمناسبة، نعتقد أن هذا السعر يبلغ حوالي 1%، معدلاً حسب التضخم، لكننا لا نعرف ذلك حقاً.
تباطؤ متوقع لنمو الوظائف الأميركية قبيل اجتماع الاحتياطي الفيدرالي
لاحظوا أن التفسير المعقد تمكن قراءته على أنه متسق مع التفسير البسيط. في الواقع، تتلخص أكثر القراءات تساهلاً للتفسير المعقد في ما جاء في التفسير البسيط. على وجه الخصوص، إن الادعاء بأن السياسة ما تزال مقيدة إلى حد ما على الأقل يوازي تركيز التفسير البسيط على تباطؤ نمو الطلب. الفرق الجوهري هو أن التفسير البسيط واضح بشأن معنى “التقييد” (أي تباطؤ نمو الطلب) وما يجب فعله إذا تبين أن سعر الفائدة أقل تقييداً مما تريد (أي رفعه).
يشوش التفسير المعقد هذا الأمر بوضع “سعر الفائدة المحايد” في صميم النقاش. هذا التركيز محرج، أولاً، لأن معنى سعر الفائدة المحايد يتغير وفقاً للسياق. يطابق سعر الفائدة المحايد طويل الأجل عرض المدخرات مع الطلب عليها عندما يكون الاقتصاد في حالة توازن عند التوظيف الكامل مع استقرار التضخم. هذا رقم مثير للاهتمام، ولكنه لا يفيد كثيراً لأغراض السياسة النقدية قصيرة الأجل.
تفسير تشوشه عوامل عدة
يجب أن يأخذ سعر الفائدة المحايد قصير الأجل، أي “المحايد” في هذا المكان وازمان، في الاعتبار التضخم غير المستقر والبطالة المتغيرة وأي عدد من الضغوط المربكة والمتقلبة: التغيرات في السياسة المالية وصدمات الرسوم الجمركية وصدمات الإنتاجية وما إلى ذلك. يمكنك تقديره بإدخال قيم جميع هذه العوامل، لكن نطاق التقديرات واسعٌ حتماً، والرقم عند قياسه بشكل صحيح في حركة مستمرة.
مرة أخرى، من الناحية العملية، يمكنك الحكم بشكل أفضل على ما إذا كان المعدل أعلى أو أقل من “المحايد” لأغراض السياسة النقدية من خلال السؤال عما إذا كان نمو الطلب في انخفاض أم ارتفاع. إذاً ما عليكم إلا الانتقال مباشرةً إلى التفسير البسيط.
سوق السندات لن ترحب بخفض “الاحتياطي الفيدرالي” أسعار الفائدة
في الأسبوع الماضي، ألقى ستيفن ميران، أحدث المعينين في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، محاضرةً أوضحت عن غير قصد مشاكل المعدل المحايد، موضحاً سبب اعتقاده بأنه أقل بكثير مما يعتقده معظم صانعي السياسات الآخرين في البنك.
يحتسب ميران ما بين 62 و73 نقطة أساس خفضاً لاحتساب تأثير الرسوم الجمركية (لأنها تزيد الإيرادات وتزيد من المدخرات الوطنية)، و36 نقطة أساس لتأثير حملة قمع الهجرة (لأن تباطؤ النمو السكاني يقلل من الطلب على الاستثمار)، وما بين 6 و31 نقطة أساس للتغييرات الضريبية الأخيرة (التي، كما يزعم، ستخفض عجز الموازنة الإتحادية، ما يزيد من المدخرات).
كما ينظر إلى العوامل التي تدفع في الاتجاه الآخر، والتدابير القائمة على السوق للسعر المحايد وغيرها تعقيدات أخرى، بما في ذلك التشوهات المؤقتة في الأسعار (لا سيما أن التأخر قبل أن يؤثر تباطؤ زيادات الإيجارات على مقاييس التضخم) والناتج (سيؤدي تحرير القيود والسياسة الضريبية إلى زيادة الناتج المحتمل، وهو ما يُؤدي إلى انكماش التضخم).
تشتيت عن العنصر الأهم
يُنسب الفضل لهذا الرجل لتبيان مفاعيله. لكن جميع هذه التقديرات موضع شك. ويبدو أن تقديرات ميران تتناقض أيضاً مع تحليلاته السابقة. تبدو فكرة أن الموقف الحالي للسياسة المالية يعزز المدخرات ويُخفض سعر الفائدة المحايد غريبة جداً. لكن النقطة الرئيسية هي أن هذا الأمر برمته يصرف الانتباه عن أهم ما يهم السياسة النقدية: هل يسير نمو الطلب على مسار يتوافق مع معدل تضخم بنسبة 2%؟
لطالما أدرك مؤيدو استهداف الطلب، المعروف أيضاً باسم استهداف الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، أن له مزايا أخرى إلى جانب البساطة، وهذه المزايا قيّمة بشكل خاص في الظروف الحالية.
ترسل الصدمات، مثل الرسوم الجمركية، التي تدفع الأسعار إلى الارتفاع والعمالة إلى الانخفاض (على الأقل في البداية)، إشارات متضاربة إلى الاحتياطي الفيدرالي. فأي جزء من التفويض المزدوج ينبغي أن يعطيه الأولوية؟ بدلاً من المطالبة بتوازن المخاطر، يتيح تحديد هدف الطلب للبنك المركزي عدم التحيز.
الإنفاق الاستهلاكي الأميركي يفوق التوقعات مع استمرار ضغوط التضخم
إذا حافظ الطلب على مساره الصحيح، سيبقى سعر الفائدة ثابتاً بدلاً من الارتفاع لكبح التضخم أو الانخفاض لتحفيز التوظيف. في الواقع، بدلاً من مواجهة معضلة مستحيلة، يسمح للاحتياطي الفيدرالي بتجاهلها: يرسخ هدف الطلب فكرة “النظر من خلال” تقلبات جانب العرض قصيرة الأجل.
إذا حافظ الطلب على مساره الصحيح، سيعود التضخم إلى مستواه المستهدف، ولن تُزعزع تجاوزات التضخم المؤقتة للهدف التوقعات.
للتوضيح، لا يحلّ هدف الطلب تعقيدات لا تنتهي وتشكل أساس توقعات الناتج والتضخم. يمكن القول إن وضع توقعات جيدة للناتج المحلي الإجمالي القومي يتطلب من الاحتياطي الفيدرالي تقييم عوامل من النوع الذي ناقشه ميران، وكثير من العوامل الأخرى.
مع ذلك، فإن تنظيم مناقشة وعرض سياسة الاحتياطي الفيدرالي حول الطلب يركز على الجانب الأنسب. من شأنه أن يعزز التواصل الفعال، وتقييمات أكثر واقعية لما يمكن وما لا يمكن للاحتياطي الفيدرالي فعله، وتصحيح أخطاء السياسة بشكل أسرع.
في أغسطس، بعد المراجعة الدورية الأخيرة، أعلن باول عن تغيير في ما يسمى “إطار عمل” الاحتياطي الفيدرالي. كان ذلك بمثابة حدث عابر. تخلى الاحتياطي الفيدرالي عن فكرته السابقة المتمثلة في السعي لأن يتخطى التضخم هدفه لتعويض سلسلة مستمرة من قصوره عن الهدف، لأنه، كما أشار باول محقاً قد “ثبت عدم جدواها”. الخبر السار هو أن هذه المراجعة لم تنته تماماً، وما تزال التغييرات في طريقة إعلام الاحتياطي الفيدرالي عن قراراته السياسية منتظرة. نصيحتي بسطوا الأمور وتحدثوا أكثر عن الطلب.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج