الهبوط السلس للاقتصاد الأميركي يرتكز على أرضية غير مستقرة

الهبوط السلس للاقتصاد الأميركي يرتكز على أرضية غير مستقرة

قد نلتمس العذر للأميركيين لشعورهم بالرضا عن الذات فيما يتعلق بالاقتصاد. فقد وصف الرئيس التنفيذي الأبرز في البلاد، جامي ديمون، الطفرة الاقتصادية بـ”غير المعقولة”، كما أطلقت المجلة الأكثر تأثيراً “ذا أتلانتيك” على الاقتصاد الأميركي لقب “النجم الخارق”. “ولو اعتبرنا أن اقتصاد الولايات المتحدة بطل رياضي، فسيكون في قمة تألق ليبرون جيمس، وإذا كان نجم بوب، فسيكون في ذروة تألق تايلور سويفت”. يشير خفض الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس هذا الأسبوع إلى ثقة “الاحتياطي الفيدرالي” في كبح تضخم الأسعار.

تهيمن الولايات المتحدة بشكل لافت على صناعات المستقبل. إذ تستحوذ الشركات الأميركية على 61% من التمويل العالمي للشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ17% للشركات الصينية و6% للشركات الأوروبية. وتجذب الولايات المتحدة 50% من التمويل الخاص للحوسبة الكمية عالمياً مقابل 5% فقط لأوروبا. كما تستحوذ ثلاث شركات أميركية عملاقة على 65% من السوق العالمية للحوسبة السحابية.

علاوة على ذلك، تسيطر الولايات المتحدة على العديد من الصناعات التقليدية مثل المواد الكيميائية والورق. من إحدى مصادر المتعة لزيارة المناطق البعيدة في أميركا هي اكتشاف شركات رائدة عالمياً في أماكن مثل “كوك إنك” (Koch Inc) في ويتشيتا، بولاية كانساس، و”تيمبرلاند” (Timberland LLC) في ستراتهام بولاية نيوهامبشير. وإذا انقسم الاقتصاد العالمي إلى كتل متنافسة، كما يحذر المتشائمون، ستظل الولايات المتحدة مزدهرة.

لكن عند التمعن الدقيق في هذه الآلة الإنتاجية الهائلة، تظهر بعض التصدعات. هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى السبع ليست بالضرورة أمراً إيجابياً. فقد تكون هذه الشركات تحتكر الابتكار بدلاً من نشره عبر الاقتصاد الأوسع. كما أن بعض المؤشرات الاقتصادية الأساسية للبلاد تظهر إشارات تحذيرية.

عجز الاقتصاد الأميركي

أكثر هذه الإشارات التحذيرية وضوحاً هو العجز، الذي يبلغ الآن 6% من الناتج المحلي الإجمالي. لا كامالا هاريس ولا دونالد ترمب لديهما خطة منطقية لمعالجة مشكلة الديون الوطنية. على العكس، كلا المرشحين اقترح زيادات في الإنفاق وتخفيضات في الإيرادات، مما قد يجعل الوضع أسوأ، وخاصة في حالة ترمب. وفي وقت ما، يحتمل أن تتدخل الأسواق وتفرض إجراءات تتسبب في صدمة قوية ومؤلمة.

إحصاءات قطاع الصحة بالولايات المتحدة غير مبشرة نسبياً. في عام 2021، كان يتوقع أن يعيش الفرنسيون ست سنوات أطول من الأميركيين، والألمان 4.3 سنة أطول (كانت الأرقام المقابلة لعام 2018 هي أربع سنوات و2.5 سنة). نسبة الأميركيين المصنفين كبدناء ارتفعت من 15% في عام 1980 إلى 41.9% اليوم، وهي النسبة الأعلى في العالم المتقدم. وترتبط السمنة بالعديد من الأمراض الأخرى، مثل أمراض القلب والاكتئاب وارتفاع ضغط الدم والسرطان المرتبط بنمط الحياة، ومرض السكري الذي يصيب 13% من السكان.

أما إحصاءات التعليم فهي محبطة أيضاً. في عام 2022، احتلت الولايات المتحدة المرتبة 34 في اختبار الكفاءة الرياضية (PISA) للطلاب البالغين من العمر 15 عاماً. وفي عام 2023، سجل طلاب الولايات المتحدة البالغون من العمر 13 عاماً أدنى مستوياتهم في الرياضيات والقراءة منذ عقود، وفقاً للتقييم الوطني للتقدم التعليمي. تراجعت درجات اختبار “آكت” (ACT) للقبول الجامعي للسنة السادسة على التوالي. النتائج في المستويات العليا مثيرة للقلق نظراً لأهمية الذكاء الفطري في دفع الاقتصاد الجديد. فقط 7% من المراهقين الأميركيين حصلوا على أعلى مستوى من كفاءة الرياضيات في اختبارات “PISA”، مقارنة بـ23% من المراهقين الكوريين الجنوبيين.

لطالما عوضت الولايات المتحدة ضعف نظامها التعليمي الأساسي بنظامها الجامعي المتقدم وقدرتها على استقطاب المواهب من الخارج. ولكن كلا هذين الأصلين مهددان الآن. الجامعات بدأت تبدو مثل شركة “جنرال موتورز” (General Motors) في السبعينيات من القرن الماضي، تعاني من التضخم في الأسعار والتضخم الإداري، وتخسر ريادتها لصالح المنافسين الأجانب.

تراجع الجامعات الأميركية

تراجع ثلثا الجامعات الأميركية في التصنيف الدولي الذي تصدره مؤسسة “كواكاريلي سيموندس” (Quacquarelli Symonds – QS)، في حين أن 68% من الجامعات الصينية تحسنت مراكزها. ست جامعات أميركية ضمن أفضل 100 جامعة تراجعت عشرة مراكز أو أكثر. قبل عقد من الزمان، كانت الجامعات الأميركية تقود العالم بسهولة في إنتاج الأبحاث العلمية الأكثر استشهاداً بها كمصادر مرجعية، وفقاً لمؤشر “نيتشر” (Nature) الذي يتتبع 82 مجلة علمية رائدة. أما اليوم، فإن الصين المتصدرة.

ما زالت الجامعات الأميركية جاذبة للمواهب بالنسبة إلى الطلاب الأجانب (خاصة الهنود والصينيين) الذين يواصلون تزويد برامج الدكتوراه في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). ولكن عدداً متزايداً من هؤلاء الطلاب يعودون الآن إلى أوطانهم؛ على سبيل المثال، 80% من الطلاب الصينيين الذين درسوا في الولايات المتحدة خلال الفترة من 2007 إلى 2017 عادوا إلى بلدهم، مقارنة بـ25% فقط في الفترة من 1978 إلى 2007. كما أن نظام الهجرة في أميركا يعني أن حتى أولئك الذين يريدون البقاء يجب أن يجتازوا سلسلة من العقبات التي قد تنتهي بخيبة الأمل.

مشكلات بحاجة للحكمة

التعامل مع هذه المشكلات سيكون صعباً حتى لأكثر السياسيين حكمة. لكن السياسيين الحكماء ليسوا متاحين بسهولة في واشنطن اليوم. الجمهوريون والديمقراطيون منقسمون بشكل كبير حول كيفية حل أكثر مشكلات أميركا إلحاحاً، حيث يدفع الديمقراطيون نحو سياسات أكثر شمولية حتى لو كان ذلك على حساب التميز، بينما يسعى الجمهوريون إلى فرض المزيد من القيود على الهجرة حتى لو كان ذلك على حساب الكفاءة الاقتصادية. يؤدي العداء المرير بين الجانبين إلى شلل في عملية صنع السياسات.

لا شك أن الولايات المتحدة هي حالياً الاقتصاد الأكثر تألقاً في العالم، نظراً لافتقار أوروبا إلى الابتكار ونقص عدد الأجيال الجديدة في الصين. ولكن حتى الاقتصادات المتألقة قد تصبح مترهلة، وتنفق بما يتجاوز إمكانياتها المادية، وقد يكون هناك بعض من روح تايلور سويفت في الاقتصاد الأميركي، لكن هناك أيضاً لمحة من إلفيس بريسلي في أيامه الأخيرة في لاس فيغاس.

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو صحيفة اقتصاد الشرق