اليد الصينية في أسواق النفط ستغير الكثير عالمياً

ليست هناك أشياء كثيرة يفضلها البائعون في الأسواق المالية من أن تضع حكومة يدها في السوق. هذا الوضع -حيث تُقدّم جهةٌ حكوميةٌ نافذةٌ وعداً ضمنياً بالشراء كلما انخفضت الأسعار إلى مستوياتٍ منخفضةٍ جداً، على غرار عقود الضخّ التي يستخدمها مُتداولو الخيارات- يُمكن أن يُخفّف المخاطر لسنوات.
ساهم “ضخّ غرينسبان”* في دعم أسواق الأسهم من ثمانينيات القرن الماضي إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما ساهم “ضخّ بايدن”** في دعم النفط الخام لمدة عامين حتى نوفمبر.
هناك أمر مشابه يحدث مع تصرفات الصين في سوق النفط. إذ إن أكبر مستورد للنفط يخزن منتجات الوقود الأحفوري، على الرغم من أن استهلاكها يبدو أنه قد بلغ ذروته. وهذا يُساعد العالم على تجاوز طفرةٍ في العرض، فيما ترخي منظمة البلدان المُصدّرة للنفط (أوبك) قيود حصصها المفروضة منذ عام 2022.
خافيير بلاس: لماذا تكدس الصين كل هذه المخزونات من النفط؟
قدّم زميلي خافيير بلاس الشهر الماضي ستّ نظرياتٍ تُفسّر ما يحدث. مع ذلك، وبالنظر إلى مركزية الصين في أسواق النفط عام 2025، ثمة تكهنات أخرى كثيرة مطروحة. إليكم ثلاثة تفسيرات أخرى جديرة بالدراسة.
إنقاذ أطراف تدعمها الدولة
إن زيادة “أوبك” للإمدادات ضربة تستهدف منافسيها الأخطر: منتجي النفط الأميركيين. في الشرق الأوسط، يُمكن تحقيق أرباح جيدة رغم انخفاض الأسعار، لكن النفط الصخري في الولايات المتحدة يُعاني عند أقل من 60 دولاراً، وهو الاتجاه السائد حالياً.
يُمكنكم إلقاء نظرة على مدى قتامة التوقعات في أحدث استطلاع من الاحتياطي الفيدرالي في دالاس حول صناعة الطاقة. وصرح مسؤول تنفيذي لم يُكشف عن هويته للاستطلاع: “لقد بدأنا مرحلة تراجع النفط الصخري”. وكتب آخر: “أولئك القادرون على ذلك يسارعون إلى الخروج”.
تواجه الصين مشكلةً مشابهة. في السنوات الأخيرة، ضغطت بكين على المنتجين الحكوميين للاستثمار في حقول يصعب الوصول إليها لتقليل الاعتماد على الواردات. هذا الإنفاق يؤتي ثماره الآن؛ من بئر بعمق 10 كيلومترات في صحراء مقاطعة شينجيانغ إلى احتياطي من الصخر الزيتي يبلغ 1.15 مليار برميل أُعلن عنه الشهر الماضي في حقل داتشينغ الأسطوري شمال شرق بكين. مع ذلك، لم يكن الأمر رخيصاً.
الصين تتفوق على أميركا بسباق تصدير الطاقة
في شركة ”بتروتشاينا“ (PetroChina)، التي تُمثل أكثر من نصف الإنتاج في الصين، ارتفعت تكلفة تطوير واستخراج احتياطيات جديدة إلى 60 دولاراً للبرميل، وهي تكحلفة مماثلة لبرميل النفط الصخري، في السنوات الأخيرة، وفقاً لبيانات جمعتها بلومبرغ.
الحقول الرئيسية -مثل داتشينغ- تشيخ بعد عقود من التشغيل، وهذا يجبر ”بتروتشاينا“ ونظيراتها التي تملكها الدولة باطراد على استغلال المكامن المحدودة التي قد تكون مألوفة لشركات التكسير الهيدروليكي في تكساس.
بالنسبة للولايات المتحدة الغنية بالنفط، يُعد انهيار الإنتاج المحلي أمراً محرجاً، ولكنه ليس حالة طوارئ. أما في الصين، التي تستورد حوالي 70% من النفط، سيُمثل ذلك نقطة ضعف استراتيجية خطيرة، في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية. إن الحفاظ على ارتفاع الأسعار وتحقيق أرباح لشركات النفط الحكومية مسألة أمن قومي.
دعم الصادرات
ليست شركات إنتاج النفط هي الوحيدة التي تسعى بكين لدعمها. فقد أنقذ المصنعون الاقتصاد من انهيار قطاع الإسكان منذ عام 2022، بفضل الإقبال العالمي الشديد على الصادرات الصينية.
لم يساعد هذا التحول خشية الولايات المتحدة، وبدرجة أقل الدول المتقدمة الأخرى، من النفوذ الصناعي الصيني، ففرضت رسوماً جمركية وتجنبت منتجاتها رداً على ذلك. مع ذلك، شهدت المبيعات ازدهاراً لمجموعة واحدة من الدول: منتجي النفط.
انخفضت صادرات الصين إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، نادي الديمقراطيات الغنية، بنحو 75 مليار دولار بين عامي 2021 و2024، لكن صادراتها إلى مجموعة ”أوبك+“ من مُصدري النفط زادت بأكثر من ضعف هذا المبلغ، إذ تدأب السعودية على شراء الألواح الشمسية وبطاريات الليثيوم أيون، وتشتري الإمارات الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية من شركة ”بي واي دي“ (BYD).
كانت الزيادة البالغة 48 مليار دولار في الصادرات إلى روسيا وحدها كافية تقريباً لتعويض الانخفاض البالغ 52 مليار دولار في الصادرات إلى الولايات المتحدة. كما يُقدم منتجو النفط الخليجيون الأثرياء قروضاً لدول مثل باكستان ومصر لمواصلة شراء النفط. وتأمل بكين أن يدعم ارتفاع أسعار النفط الخام الإمارات الخليجية ويعزز أرقام تجارتها.
كتب فيل فيرليغر، محلل سوق النفط المخضرم حديثاً: “لدى الصين حافز كبير للحفاظ على ارتفاع أسعار النفط. وبذلك، تُعزز دخل الدول التي تعتمد على صادراته”.
المشترون والبائعون
هذا لا يعني أن مصالح بكين و“أوبك+“ متوافقة تماماً. في الواقع، طبيعي أن يكون هناك تعارض بينهما.
تعاني الصين نقصاً حاداً في النفط الخام، لكنها غنية بمعامل المعالجة، متجاوزةً الولايات المتحدة العام الماضي لتصبح أكبر دولة تكرير في العالم من حيث الطاقة الإنتاجية.
تحقق المصافي أفضل أرباحها عندما يكون هناك فائض في المعروض من النفط الخام، ما يسمح لها بخفض تكاليف المواد الخام مع الحفاظ على أسعار المنتجات التي تبيعها، مثل البنزين والديزل، مرتفعةً. إن خداع الموّردين لإحداث فائض نفطي هو ببساطة منطق تجاري سليم.
معالجة فائض الطاقة التكريرية في الصين قد يستغرق 5 سنوات
تُعد مصافي النفط الصينية من بين أكبر وأحدث وأكثر المصافي تعقيداً على مستوى العالم، ما يجعلها في وضع مثالي لإدارة الأزمات، لا سيما مع تحول العالم من وقود الطرق إلى البلاستيك والمواد الكيميائية وكيروسين الطائرات.
إذا توقفت بكين عن التخزين، مع تفاقم فائض النفط الخام الحالي في ظل تراجع الاستهلاك، ستكون المصافي الجديدة الكبرى التي تشتري النفط الرخيص من الشرق الأوسط (والنفط الروسي والإيراني والفنزويلي الخاضع للعقوبات) هي الرابح الأكبر من هذه المذبحة. بمعنى آخر، الصين. أما المصافي القديمة ذات التكاليف المرتفعة والمرونة الأقل في التكيف، وخاصةً تلك الموجودة في أوروبا، فستواجه كارثة.
هذا احتمال مقلق. إذا كنت تعتقد أن العالم كان قلقاً في السنوات الأخيرة من سيطرة الصين على سلاسل توريد الطاقة النظيفة، فانتظر حتى يبدأ الأمر نفسه في مجال النفط.
* يقصد السياسة غير المعلنة للاحتياطي الفيدرالي الأميركي خلال عهد آلان غرينسبان بالتدخل بخفض أسعار الفائدة أو ضخ السيولة كلما هبطت الأسواق المالية بشكل حاد، كما حدث بعد انهيار 1987 أو فقاعة الدوت كوم. هذا خلق شعوراً لدى المستثمرين بأن الفيدرالي سيحميهم دائماً من الخسائر الكبيرة، وشجّع على المخاطرة الزائدة لأن الأسواق توقعت دائماً إنقاذها من قبل الفيدرالي.
** يشير إلى التدخل الضمني للبيت الأبيض في سوق النفط لضبط الأسعار عندما تهبط بشدة؛ خصوصاً عبر الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للولايات المتحدة. فالإدارة كانت تشتري النفط لتجديد الاحتياطي عندما تراجع السعر إلى مستويات منخفضة (حوالي 70 دولاراً للبرميل)، ما وفر دعماً أرضياً للأسعار. خلقت هذه السياسة إحساساً بأن هناك “حداً أدنى مضموناً” لسعر النفط لأن الحكومة ستتدخل بالشراء عند الانخفاض الكبير.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج