ما نظرية “التدمير الخلاق” التي ستعيد تشكيل اقتصادات العالم؟

لم يعد النمو الاقتصادي يعتمد فقط على تراكم رأس المال أو وفرة الموارد الطبيعية، بل على القدرة على الابتكار ، في ظل عالم تتبدّل فيه أنماط الإنتاج والاستهلاك بوتيرة متسارعة. ولأهمية تفسير النمو الاقتصادي المعتمد على الابتكار، منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2025، إلى الأميركيين جويل موكير وبيتر هيويت، والبريطاني فيليب أجيون. الأكاديمية خصت موكير بنصف الجائزة تقديراً لدراساته حول المتطلبات الأساسية للنمو المستدام عبر التقدم التكنولوجي، فيما تقاسم أجيون وهيويت النصف الآخر عن تطوير نظرية النمو المستدام القائمة على “التدمير الخلاق”.
في التقرير التالي، نستعرض ما المقصود بمصطلح “التدمير الخلاق” والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها، وأبرز القطاعات الاقتصادية التي يعيد تشكيلها والتحديات.
ما المقصود بمفهوم “التدمير الخلاق”؟
صاغ الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر مصطلح “التدمير الخلّاق” لأول مرة عام 1942، وعرّفه بأنه الابتكارات في عمليات التصنيع التي تزيد الإنتاجية، مشبّهاً إياه بـ”عملية تحوّل صناعي مستمرة تُحدث ثورة في البنية الاقتصادية من الداخل، فتدمّر القديم وتُنشئ الجديد باستمرار”.
المفهوم يمثل القوة المحرّكة للرأسمالية، إذ يعزز المنافسة ويحفّز الابتكار الذي يُعيد تشكيل الأسواق والقطاعات، وبالتالي يسهم في تحقيق نمو اقتصادي طويل الأمد وتحسين الإنتاجية.
تشير نظرية التدمير الخلّاق إلى أن الهياكل القديمة يجب تفكيكها لتحرير الموارد للابتكار، وأن الاقتصاد ليس ثابتاً بل عملية ديناميكية حيّة تختلف عن النماذج الرياضية التقليدية. كلمة “التدمير” تشير إلى أن العملية تخلق رابحين وخاسرين معاً؛ إذ يُستبعد المنتجون والعمال المرتبطون بالتقنيات القديمة تدريجياً، بينما يبرز رواد الأعمال والعاملون في القطاعات الجديدة.
كما يمكن أن يؤدي إلى ظهور صناعات جديدة بالكامل لم تكن موجودة من قبل. فعلى سبيل المثال، أدى ظهور الإنترنت إلى نشوء صناعات جديدة مثل التجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي والتسويق الرقمي.
المبادئ الأساسية لـ”التدمير الخلاق”
الابتكار
يعتمد “التدمير الخلاق” على مجموعة من العوامل، تشمل الابتكار، إذ يقوم أساساً على تقديم أفكار ومنتجات وتقنيات جديدة تحلّ محلّ تلك القائمة. ويُعدّ الابتكار القوة المحركة لهذا المفهوم؛ فمن دونه لا يمكن للعملية أن تُوجد، ومن دون المبتكرين لن يكون هناك من يقود التغيير أو يُحدث التحوّل المطلوب.
المنافسة
يُعدّ التنافس الحادّ بين التقنيات أو المنتجات القديمة والجديدة جوهر عملية التدمير الخلّاق. فحتى تتمكّن الابتكارات من الحلول محلّ ما قبلها، يجب أن تُثبت تفوقها وكفاءتها. وتعمل الشركات باستمرار على البحث عن طرق أفضل وأكثر فاعلية، وغالباً ما تكون مستعدة لتقويض ما أنجزته سابقاً من أجل التوصل إلى حلول أكثر استدامة على المدى الطويل.
ريادة الأعمال
تلعب ريادة الأعمال دوراً محورياً في عملية التدمير الخلّاق، إذ إن رواد الأعمال الذين يبتكرون منتجات وتقنيات جديدة هم العناصر الفاعلة في هذه العملية. فهم من يقودون إدارة التغيير ويعملون على تثقيف الموظفين والمستهلكين بشأن تأثير هذا التحوّل. ومن دون رؤية واضحة وتوجيه فعّال، يفشل رائد الأعمال غالباً في تحويل فكرته المبتكرة إلى واقع ناجح.
رأس المال
يُعتبر رأس المال أحد العناصر المهمة في عملية “التدمير الخلّاق”، إذ إن تنفيذ التغييرات الجذرية والابتكارات الكبرى يتطلب استثمارات مالية ضخمة واستعداداً لتحمّل مخاطر مالية كبيرة. وغالباً ما تلجأ الشركات إلى رأس المال الجريء لتمويل مشروعاتها المبتكرة.
كيف يُعيد “التدمير الخلاق” تشكيل الاقتصاد؟
يُعيد “التدمير الخلّاق” رسم ملامح القطاعات الاقتصادية واحداً تلو الآخر، ليصبح الابتكار المستمر شرط البقاء والتقدّم في عالم لا يتوقف عن التطور. ومن أبرز الأمثلة في التاريخ خط التجميع الذي ابتكره هنري فورد، والذي أحدث ثورة في صناعة السيارات. يمكن أن يحدث “التدمير الخلّاق” في أي صناعة تقريباً، كما يمكن أن يظهر على نطاق أصغر، مثل استبدال المنتجات والخدمات الحالية بأخرى جديدة ومبتكرة. وتسعى الشركات دوماً إلى تحسين أدائها وكسر الأنماط التقليدية بحثاً عن فرص أعمال جديدة ومسارات مبتكرة للنمو.
وفي ما يلي بعض أبرز الأمثلة:
التكنولوجيا
يُعدّ قطاع التكنولوجيا أبرز مثال حيّ على التدمير الخلّاق في الواقع العملي. فالتقنيات الجديدة والبرمجيات المبتكرة تظهر باستمرار لتحلّ محلّ القديمة وتُحدث اضطرابات جذرية في الأسواق القائمة. فعندما ترى شركة مثل “أبل” أن الوقت مناسب، تُطلق أجهزة أو برامج جديدة تحلّ عادةً محل منتجاتها السابقة.
الإعلام والترفيه
أدّى صعود خدمات البث الرقمي مثل “نتفليكس” (Netflix) و”أمازون برايم” (Amazon Prime) إلى إعادة تشكيل صناعة الإعلام والترفيه التقليدية، وتراجع الإقبال على التلفزيون ودور السينما. واليوم، باتت هذه المنصات نفسها تُعيد اختراع الصناعة من جديد عبر الاستثمار في إنتاج محتواها الخاص، لتتحوّل من مجرد موزّع إلى منتِج رئيسي للمحتوى.
تجارة التجزئة
أحدث نمو التجارة الإلكترونية تحولاً جذرياً في عالم التجزئة، إذ أدى إلى إغلاق العديد من المتاجر التقليدية وصعود الأسواق الرقمية. فالكثير من الناس اليوم يزورون المراكز التجارية بمعدلات أقل مقارنة بالتسوّق عبر الإنترنت. واللافت أن شركات البيع الإلكتروني بدأت الآن تتوسّع إلى مجالات جديدة وغير تقليدية، مثل المنتجات الغذائية والخدمات المنزلية الرقمية.
التمويل
أطلقت شركات التكنولوجيا المالية موجة من التغييرات التي هزّت البنوك والمؤسسات المالية التقليدية، عبر تقديم خدمات رقمية مبتكرة تُبسّط العمليات وتُعيد تعريف مفهوم الاستثمار. واليوم، بات من الممكن الاستثمار في حصص رمزية من أصول حقيقية ملموسة بفضل التقنيات المالية الحديثة.
الطاقة
يشهد قطاع الطاقة تحولاً جذرياً بفعل تطور تقنيات الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وصعود جيل جديد من الشركات التي تسعى إلى تطوير حلول خضراء مبتكرة.
ماذا عن سلبياته؟
“التدمير الخلّاق” لا يخلو من سلبيات وتحديات ملموسة رغم أنه يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، فعندما تُستبدل الصناعات والتقنيات القديمة بأخرى جديدة، تظهر آثار جانبية لا يمكن تجاهلها:
فقدان الوظائف
يُؤدي زوال الصناعات القديمة إلى فقدان العديد من فرص العمل، ما يترك بعض العاملين عاطلين عن العمل أو غير مؤهلين للالتحاق بالقطاعات الجديدة. ويزداد الأمر صعوبة في الحالات التي يكون فيها العمل السابق مرتبطاً بصناعة تقليدية متقادمة، إذ يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تظهر وظائف جديدة تُعوّض تلك المفقودة أو تتكوّن مهارات تتناسب مع الاقتصاد الجديد.
فمثلاً يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يمثل حلٍاً إبداعياً وجذرياً للتحديات الأكثر إلحاحاً، ومنها القضاء على الفقر، بينما يرى البعض الآخر أنه يعني اختفاء الوظائف وجزءاً كبيراً من عالم ما بعد الثورة الصناعية.
يتوقع تقدير متحفظ صادر عن “غولدمان ساكس” أن تحل مخترعات الذكاء الاصطناعي محل ما يصل إلى 300 مليون وظيفة بدوام كامل على مستوى العالم خلال العقد القادم. وهذا العدد يعادل نحو 8.5% من القوى العاملة على مستوى العالم، وفق البنك الدولي.
عدم المساواة في توزيع الفوائد
لا تُوزَّع مكاسب التدمير الخلّاق بالتساوي بين الجميع، إذ تميل الثروة والنفوذ إلى التركز في أيدي قلة من الأفراد أو الشركات القادرة على النجاح في الأسواق الجديدة. وغالباً ما تكون هذه الجهات هي الأكثر وصولاً إلى رأس المال والسلطة والتأثير. أما من هم خارج هذه الدائرة، فيجدون صعوبة في مواكبة وتيرة التغيير أو الاستفادة من الفرص الجديدة.
في يونيو 2025، كشفت منظمة “أوكسفام” أن أغنى 1% من سكان العالم زادوا ثرواتهم بأكثر من 33.9 تريليون دولار بالقيمة الحقيقية منذ عام 2015. وهذه الثروة كافية للقضاء على الفقر السنوي 22 مرة وفقاً لأعلى خط فقر محدد من قبل البنك الدولي والبالغ 8.30 دولارات يومياً. وقد ارتفعت ثروة 3000 ملياردير فقط بما يعادل 6.5 تريليون دولار بالقيمة الحقيقية منذ 2015، وتمثل الآن ما يعادل 14.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
التحديات البيئية
قد تترتّب على “التدمير الخلّاق” تكاليف بيئية غير متوقعة، فالتقنيات والمنتجات الجديدة قد تُحدث تأثيرات بيئية سلبية لا تظهر إلا بعد سنوات، كما أن استبدال التقنيات القديمة بأخرى جديدة يخلّف بدوره أعباء بيئية ناتجة عن عمليات التصنيع والتخلّص من المنتجات القديمة. وغالباً ما يستغرق التحقق من الأثر البيئي طويل المدى لهذه الابتكارات وقتاً طويلاً، إلى أن تتوافر أدلة علمية كافية لقياس تبعاتها الحقيقية.
ختاماً، يصف مفهوم التدمير الخلّاق، الذي ابتكره شومبيتر، العملية التي تؤدي فيها الابتكارات والتغيرات التكنولوجية إلى تفكيك الهياكل الاقتصادية القائمة لإفساح المجال أمام هياكل جديدة. تعمل هذه الديناميكية على تحفيز النمو الاقتصادي من خلال تعزيز الابتكار والمنافسة وفتح فرص جديدة في الأسواق. مع ذلك، فإنها تأتي مع تكاليف مثل فقدان الوظائف واضطراب الصناعات، في حين تشمل فوائدها على المدى الطويل نشوء صناعات جديدة وتحسين مستويات المعيشة.
نقلاً عن: الشرق بلومبرج