تقف إسرائيل اليوم عند منعطف تاريخي بالغ الخطورة، ليس فقط بسبب الحرب المستمرة في غزة وما خلّفته من دمار غير مسبوق وقتلى مدنيين بالآلاف، بل أيضاً بسبب التداعيات الداخلية والخارجية التي تتجاوز ميدان القتال بكثير. فمن الواضح أن القيادة الإسرائيلية الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو، تتصرف بطريقة تجعل العالم ينظر إلى الحرب لا باعتبارها معركة من أجل بقاء الدولة اليهودية، بل باعتبارها معركة من أجل بقاء رئيس وزرائها في الحكم، وتجنب المحاكمات، وضمان دعم أقصى اليمين في حكومته. هذا التوصيف وحده يفسر التناقض الصارخ بين الخطاب الإسرائيلي الرسمي الذي يصر على “النصر الكامل” وبين واقع الميدان والسياسة الذي يكشف أن الحرب لم تعد تخدم هدفاً عسكرياً استراتيجياً قابلاً للتحقق، بل تحولت إلى نزيف دموي يفاقم عزلة إسرائيل الدولية ويمزق نسيجها الاجتماعي واليهودي العالمي.
وقد أكدت مقالة Thomas Friedman في صحيفة New York Times بتاريخ 25 أغسطس، والمعنونة “Israel’s Gaza campaign is turning it into a pariah state”، أن المجتمع الإسرائيلي عاش منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 حالة من الصدمة من الاختراق الأمني الهائل الذي جعل الإسرائيليين يتوحدون خلف فكرة الرد العسكري. لكن مع مرور الوقت وتحوّل الحرب إلى عملية مفتوحة بلا أفق، بدأت التساؤلات تتزايد حول الغاية الحقيقية من استمرارها، إذ يشعر معظم الإسرائيليين بأن مستقبلهم الفردي والجماعي أصبح مرهوناً بحرب تفتقر اليوم إلى هدف عسكري واقعي، ويريد أغلبهم إنهاءها بدلاً من مواصلتها تحت وعود “النصر الكامل” الوهمية.
واتصالاً بذلك حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت من تدهور مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، في منشور طويل على منصة X، مشيراً إلى أن إسرائيل تُرى بشكل متزايد كـ”دولة منبوذة”. كما أوضح الجنرال الإسرائيلي المتقاعد ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق عاموس يادلين أن “النصر الكامل لم يكن يوماً هدفاً واقعياً، وليس طريقاً للنجاح الاستراتيجي”، مضيفاً أن “العقيدة الأمنية الإسرائيلية تقوم على انتصارات عسكرية سريعة يمكن تحويلها لإنجازات سياسية؛ أما الحرب في غزة فهي عكس ذلك”. فالبنية العسكرية لحماس تضررت بشدة، ومعظم قادتها الكبار الذين خططوا للهجوم قُتلوا، لكن العمليات ما زالت مستمرة بوتيرة عالية تستهدف قادة ميدانيين صغار يختبئون بين المدنيين، ما يعني أن كلفة كل عملية باتت أكبر من عائدها العسكري. وفي هذا السياق يمكن فهم الضربات التي طالت المستشفيات، مثل قصف محيط مستشفى ناصر في جنوب غزة الذي أوقع عشرات الضحايا بينهم صحفيون ومسعفون، ليصدر الجيش الإسرائيلي بياناً مقتضباً يأسف فيه على “الأضرار الجانبية”. لكن العالم بات يرى في هذه التبريرات غطاءً لفظياً لا يغير من واقع أن المدنيين هم من يدفعون الثمن الأكبر.
ما يصفه نتنياهو بـ”الحوادث المأساوية” ليس سوى نتيجة حتمية لسياسة إطالة أمد الحرب من أجل البقاء السياسي. فلكي يظل رئيساً للحكومة، يحتاج إلى دعم وزرائه من أقصى اليمين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذين يدفعون باتجاه مشاريع توسعية واستيطانية في الضفة الغربية ويدعون عملياً إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم. بهذا يصبح استمرار الحرب وسيلة لإعادة هندسة المشهد الديموغرافي والسياسي في فلسطين التاريخية، وليس مجرد رد على تهديد أمني مؤقت. لكن المشكلة أن هذه الاستراتيجية تُعرّي إسرائيل أمام العالم، وتجعلها تبدو وكأنها تسعى لتوسيع الاحتلال من الضفة إلى غزة، لا لمجرد تحييد خطر حماس. وهذا ما يفسر تراجع مكانة إسرائيل على المستوى الدولي، حتى بين أقرب حلفائها.
وفي هذا السياق، نشرت مؤسسة Atlantic Council مقالة بعنوان “Israel’s Gaza City operation will leave it more isolated. It’s time for a course correction”، خلصت إلى أن إسرائيل تواجه تراجعاً غير مسبوق في الدعم الشعبي الأميركي. فبحسب استطلاعات مركز “Pew”، أصبح 53% من الأميركيين ينظرون إليها نظرة سلبية، مقارنة بـ42% فقط قبل عامين. الديمقراطيون أكثر انتقاداً (69% يحملون مواقف سلبية)، لكن اللافت أن نصف الجمهوريين الشباب باتوا أيضاً يحملون انطباعاً سلبياً عن إسرائيل، ما ينذر بتآكل الدعم التقليدي العابر للحزبين. هذا التحول ليس سطحياً، بل يعكس انقساماً متزايداً داخل المجتمع الأميركي حول السياسة الخارجية، على نحو يشبه الانقسام الذي برز في قضية أوكرانيا. واليوم بدأت ملامح نقاش مشابه تطفو بشأن إسرائيل، حيث وصف بعض النواب الجمهوريين البارزين الحرب بأنها “إبادة جماعية”، وأبدى ناشطون إنجيليون شباب فتوراً في الأولوية الممنوحة لدعم إسرائيل مقارنة بجيل آبائهم. وإذا ما استمر هذا المنحى، فإن التحالف التاريخي بين إسرائيل والولايات المتحدة لن يظل على صورته السابقة.
أما على المستوى الدولي الأوسع، فالمشهد أكثر قتامة. فبحسب استطلاعات “Pew”، لا توجد دولة كبرى في أوروبا أو آسيا أو الأميركيتين فيها أغلبية شعبية مؤيدة لإسرائيل. حتى حلفاء غربيون تقليديون كبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا يتجهون نحو الاعتراف بدولة فلسطين، وهو تحول استراتيجي لم يكن متصوراً قبل سنوات قليلة. ألمانيا، التي طالما كانت داعماً عسكرياً أساسياً لإسرائيل، أوقفت مبيعات السلاح. هذا التراجع في الدعم لا يعكس فقط غضباً أخلاقياً من صور القصف والضحايا المدنيين، بل أيضاً فقدان الثقة في أن إسرائيل تملك رؤية سياسية لما بعد الحرب.
الانحدار الخارجي يقابله انقسام داخلي لا يقل خطورة. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش اليوم حالة من التمزق العميق بين تيارات ترى ضرورة الاستمرار في الحرب حتى “تحقيق النصر”، وبين تيارات مدنية وسياسية وعسكرية ترى أن الحرب فقدت أي معنى استراتيجي ويجب وقفها. هذا الانقسام ينعكس أيضاً على الجاليات اليهودية في الخارج. ففي الولايات المتحدة وأوروبا، باتت العديد من المعابد اليهودية مسرحاً للنقاشات العاصفة بين من يعتقد أن الوقوف مع إسرائيل واجب ديني وتاريخي، وبين من يرى أن سياسات نتنياهو تهدد ليس فقط صورة إسرائيل بل صورة اليهود أنفسهم في العالم. هناك يهود باتوا يخشون التحدث بالعبرية أو الإفصاح عن هويتهم عند السفر، خشية ردود فعل عدائية متزايدة ضدهم. في فرنسا تم توقيف مدير حديقة ترفيهية بتهمة التمييز الديني بعد رفض دخول أطفال إسرائيليين، وفي اليونان واجه سياح إسرائيليون مظاهرات غاضبة منعت سفينتهم السياحية من الرسو، وفي أستراليا هاجم وزراء علناً نتنياهو ووصفوه بأنه يساوي القوة بقتل الأبرياء. هذه الأمثلة ليست معزولة، بل مؤشرات على تحول إسرائيل من دولة مدعومة إلى دولة منبوذة.
السؤال المطروح عالمياً هو: لماذا تواصل إسرائيل التصرف وكأنها تسعى لمعاقبة سكان غزة جميعاً بدلاً من استهداف حماس وحدها؟ ولماذا تصر على رفض أي دور للسلطة الفلسطينية في حكم غزة بعد الحرب، ما يجعل الهدف الوحيد الظاهر هو إحكام السيطرة على القطاع؟ هذا السؤال الجوهري هو الذي يفسر الغضب الدولي المتنامي، لأن الحرب باتت تُرى كوسيلة لإدامة الاحتلال لا لمجرد الدفاع عن النفس.
إسرائيل طالما تباهت بأنها تختلف عن أعدائها لأنها تلتزم بمعايير أخلاقية وقانونية أعلى. لكن اليوم يبدو أنها تفقد هذا التفوق الأخلاقي في نظر العالم. فالعالم يستطيع أن يفرق بين حرب تُخاض لحماية بقاء الدولة اليهودية، وحرب تُخاض لحماية بقاء رئيس وزرائها. عندما يرى العالم عشرات الآلاف من المدنيين يُقتلون، وملايين يعيشون في ظروف إنسانية مأساوية، بينما ترفض إسرائيل أي حلول سياسية بديلة، يصبح من المستحيل الاستمرار في تبرير ما يحدث باعتباره “أضراراً جانبية”. ومن هنا يأتي تراجع الدعم الدولي، حتى بين الحلفاء الأقربين.
النتيجة أن إسرائيل تواجه اليوم خطر الانتحار الجيوسياسي. فهي تضع نفسها في عزلة متزايدة، وتفتح الباب أمام خصومها لتوسيع نفوذهم، سواء عبر تعزيز الاعتراف الدولي بفلسطين أو عبر استغلال تراجع صورتها في الشارع العالمي. وفي الداخل، الحرب تمزق المجتمع وتضعف تماسكه. الاحتجاجات المستمرة ضد نتنياهو تعكس عمق الأزمة الداخلية، حيث يرى مئات الآلاف من الإسرائيليين أن حكومتهم لا تقودهم إلى الأمن، بل إلى كارثة طويلة المدى.
إذا أرادت إسرائيل تصحيح مسارها، فعليها أن تدرك أن السيطرة على غزة أو أجزاء منها لن تحقق أي هدف استراتيجي، بل ستزيد من كلفتها البشرية والسياسية. المطلوب بدلاً من ذلك هو العمل مع شركاء دوليين لإيجاد صيغة حكم جديدة في غزة لا تستبعد منها الفلسطينيين أنفسهم ، كما ان عليها أن تدرك أن قوتها الناعمة – في التكنولوجيا والزراعة والمياه والصحة – يمكن أن تكون أساساً لاستعادة ثقة العالم، إذا ما تخلت عن سياسات الاحتلال والتوسع والتحرك نحو تفعيل التسويه علي اساس صيغه حل الدولتين ، لكن إذا استمرت القيادة الحالية في طريقها الحالي، فإن إسرائيل ستجد نفسها معزولة، منبوذة، وممزقة داخلياً، من أجل أهداف تكتيكية قصيرة المدى لا تخدم أمنها على المدى الطويل.
بهذا المعنى، يمكن القول إن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد مأساة إنسانية للفلسطينيين، بل أيضاً مأساة استراتيجية لإسرائيل نفسها. فالدولة التي طالما سعت إلى أن تكون جزءاً من الغرب، نموذجاً ديمقراطياً في الشرق الأوسط، وقوة إقليمية لها ثقلها ، باتت تسير بخطى سريعة نحو أن تصبح دولة منبوذة، تُقاطعها الشعوب، ويتردد قادتها في السفر، ويخشى مواطنوها من الإفصاح عن هويتهم في الخارج…فالانتحار هنا ليس فقط عسكرياً أو سياسياً، بل أخلاقياً أيضاً. وكلما طال أمد الحرب، ازدادت الكلفة وتعمق الجرح الذي قد لا يلتئم لسنوات طويلة قادمة.
السفير عمرو حلمي
نقلاً عن : تحيا مصر
- تفاصيل زيادة الإيجار القديم على المحلات التجارية بعد تطبيقها على السكني - 2 سبتمبر، 2025
- طالبة تفقد حياتها بعد سقوطها من شرفة منزلها عقب رسوبها في الامتحان - 2 سبتمبر، 2025
- انطلاق معسكر الأداء العالي لناشئي وناشئات الجولف - 2 سبتمبر، 2025