الصين مدخل ديترويت لتلحق بركب السيارات الكهربائية

الصين مدخل ديترويت لتلحق بركب السيارات الكهربائية

على مدى قرن تربعت الولايات المتحدة على عرش صناعة السيارات بفضل منظومة من المصانع ووكالات المبيعات والطرقات السريعة، لكن دوام الحال من المحال.

باتت الصدارة اليوم للصين، وهي ليست أضخم أسواق السيارات فحسب بل أنها أكبر مصدريها، كما مكنتها رؤيتها المستقبلية أن تصبح المركز العالمي للمركبات الكهربائية. فإن أرادت صناعة السيارات الأميركية، التي باتت تُعرف بإنتاج شاحنات صغيرة وسيارات رياضية متعددة الأغراض تستهلك الوقود بشراهة، أن تحافظ على قدر من الأهمية، فيجدر بها أن تتخلّى عن عقلية التحصن وراء الأسوار وأن تفكر بفتح أبوابها أمام منافستها الرئيسية.

أحدث الصعود المفاجئ للصين انقلاباً على النظام القديم، ونتج عن ذلك تباين حاد وواسع بين قطاعي السيارات في البلدين طال كل شيء حتى المحركات. لقد سجلت الصين للمرة الأولى هذا الصيف شهراً تجاوزت فيه نسبة مبيعات المركبات الجديدة الكهربائية أو الهجينة القابلة للشحن عتبة 50%، أي أنها تفوقت على السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي.

في المقابل، ما تزال حصة المركبات الكهربائية في الولايات المتحدة عالقة عند عتبة 10% من السوق، إذ تباطأت المبيعات حتى في ولاية كاليفورنيا، موطن المركبات الكهربائية في البلاد، نتيجة للنقص في الطرازات ذات الأسعار المعقولة.

إذاً، تتحرك أكبر سوقي مركبات في العالم، ومنهما تأتي أكثر من نصف السيارات المباعة عالمياً، في اتجاهين معاكسين، وهذا قد يجلب تداعيات جيوسياسية وتقنية، بل ومناخية كذلك. 

فرضت واشنطن، مدفوعة بقلقها، تعرفة جمركية حمائية ضد المركبات الكهربائية المصنوعة في الصين، فيما كان يجدر بها أن تتعاون مع المنافسين الصينيين، كما فعلت الصين مع شركات مثل “فورد موتور” و”جنرال موتورز” منذ بضعة عقود.

كانت الصين لسنوات وجهةً لشركات صناعة السيارات الساعية للنموّ بعدما نضجت أسواقها المحلية وأُتخمت. وقد تعيّن على صانعي السيارات في وقتها إقامة شراكات مع شركات صينية لتصنع مركبات ولتبيعها في الصين، وبعد 30 عاماً من التعاون نشأ تنين قادر على ابتلاع الشركات الأجنبية.

انحسار سوق ديترويت

قبل أربع سنوات، كانت حصة الشركات الصينية مثل “بي واي دي” (BYD) تقلّ عن نصف عدد السيارات المباعة في أسواقها المحلية، لكن يُتوقع أن ترتفع نسبة مبيعاتها إلى أكثر من 60% لجميع فئات المركبات هذا العام، بحسب شركة “دَن إنسايتس” (Dunne Insights) الاستشارية المتخصصة بقطاع السيارات.

في المقابل، بلغت أرباح عمليات شركة “جنرال موتورز” في الصين العام الماضي ربع ما كانت عليه قبل خمس سنوات. وقد تبنت الشركات الصينية إنتاج المركبات الكهربائية بما يفوق بأشواط منافساتها الأجنبية باستثناء “تسلا”. لكن حتى عملاقة المركبات الكهربائية التي يرأسها إيلون ماسك تشهد انحسار حصتها في السوق الصينية. 

زد على ذلك أن الصين أزاحت اليابان من حيث تصدير السيارات بعد أن رسخت شركاتها مكانتها في الأسواق الناشئة للمركبات الكهربائية، من تايلندا وحتى البرازيل. حتى وصل الأمر إلى أن الإعلان الصادم بأن “فولكس واجن” تدرس إغلاق معامل في ألمانيا، ومخاطرتها بأن ذلك قد يجلب مواجهةً مع النقابات العمالية القوية هناك، يتأتى ولو جزئياً من المنافسة الصينية الشديدة.

بالمقارنة، انحسر دور ديترويت، ليقتصر اليوم على خدمة السوق المحلية، وهي سوق غريبة رغم ضخامتها. قال مايكل دَن، مؤسس “دَن إنسايتس”: “عمل ديترويت يقتصر على صنع مركبات رياضية متعددة الأغراض وشاحنات لتسويقها في أميركا الشمالية فقط لا غير”.

إن الولايات المتحدة واحدة من ثلاثة أسواق بين العشرة الأكبر عالمياً تتربع فيها شاحنة على عرش المبيعات. في الحالة الأميركية الشاحنة الأكثر مبيعاً هي “فورد” من طرازات السلسة إف” أما السوقان الآخران فهما كندا والبرازيل. فيما تأتي السيارات الصغيرة والمتوسطة المعدة للطرق الوعرة وذات المقاعد الخمس في صدارة المبيعات في الدول الأخرى.

في الصين، كانت المركبة الأكثر مبيعاً العام الماضي من طراز “واي” الذي تنتجه “تسلا”. حتى قبل انتشار المركبات الكهربائية، كانت ديترويت تنسحب من الأسواق الأجنبية، وباتت أشكال السيارات فيها مختلفة تماماً عن السائد في الولايات المتحدة. 

سياسات حمائية

لا يمكن نكران أن المشهد يعرض قوّةً ناشئةً تزيح قوّة قديمة عن عرشها. في خطوة تذكر بحالة الذعر التي سادت حيال الواردات اليابانية في ثمانينيات القرن الماضي، عمدت إدارة الرئيس جو بايدن إلى رفع التعرفة الجمركية على المركبات الكهربائية الصينية أربعة أضعاف، رغم أنها لم تشكل سوى 2% من واردات الولايات المتحدة من السيارات الكهربائية في 2023. 

كما باشرت واشنطن تحقيقاً حول مخاطر الأمن القومي التي قد تنجم عن برمجيات هذه السيارات المتصلة بالإنترنت، وهو ما قد يستهدف أيضاً منع العلامات التجارية الصينية من إقامة مصانع في المكسيك كوسيلة للاتفاف على الرسوم الجمركية.

منطق هذه السياسات الحمائية قريب إلى العقل: ما الذي قد يدفع واشنطن لأن تسمح لشركات صينية مدعومة من حكومتها بالاستفادة من حوافز البيع في الولايات المتحدة التي جاءت بمقتضى قانون كبح التضخم؟ لكن هذه السياسات تزيد ديترويت عزلةً.

لقد عرّضت إدارة بايدن أهدافها المناخية لخطر الإخفاق حين جمعت بين أهداف لسياسات متباينة، مثل إعادة سلاسل التوريد إلى الداخل، وتعزيز التوظيف في القطاع الصناعي، واحتواء الصين. إن إتاحة منتجات قليلة الأثر على البيئة بأسعار معقولة للأميركيين بأسرع وقت ممكن أمر أساسي لتحقيق هدف الحياد الكربوني. وقد اعتمد خفض التكاليف في مجالات الطاقة النظيفة، ومن ذلك بطاريات المركبات الكهربائية، على التفوق الصناعي الصيني عالمياً. 

يمكن للناس في الصين اليوم الاختيار من أكثر من 200 طراز كهربائي بأسعار دون 50000 دولار، في حين تقلّ الخيارات المتاحة لسكان أميركا الشمالية عن 50، وفقاً لتقرير من بلومبرغ إن إي إف. وقد تخلت “تسلا” عن التركيز على صنع مركبات كهربائية بأسعار معقولة، ووجهت جهودها نحو تصنيع شاحنات “سايبرترك” بسعر 100000 دولار ومركبات الأجرة الروبوتية التي ما تزال بعيدة المنال. وفيما تسعى واشنطن لإقصاء المركبات الصينية لتمنح ما تبقى من الشركات الأميركية الثلاث الكبرى فرصة اللحاق بركب المنافسة، تواصل “فورد” و”جنرال موتورز” تقليص طموحاتهما في قطاع المركبات الكهربائية. 

تعقيدات التركيز على الشاحنات

يضعف هذا الشركات الأميركية، إذ كانت مبيعات المركبات في الولايات المتحدة قد توقفت عن النموّ قبل عقود. وفي حين ساعد حثّ الناس على استبدال السيارات التي تتسع لخمسة ركاب بمركبات أضخم وأغلى على حماية الأرباح، إلا أن الطلب على الشاحنات بلغ ذروته اليوم فيما وصل وسطي أسعارها إلى نحو 50000 دولار. 

يتجلى غياب آفاق النموّ في ضآلة مضاعفات الربحية التي سجلتها كلّ من “فورد” و”جنرال موتورز”، حتى أن الأخيرة لجأت لعمليات إعادة شراء أسهم ضخمة استقطاباً للمستثمرين. 

تتيح كهربة أسطول المركبات الأميركي سبيلاً آخر لتحقيق النموّ في سوق متباطئ. إلا أن تركيز السوق على الشاحنات يعقّد الأمور، فضخامة أوزانها وافتقارها للانسيابية يصعّبان تحويلها إلى مركبات كهربائية. يثير هذا مخاوف من أن تبقى الولايات المتحدة رهينة قطاع سيارات يعاني ركوداً ويعجز عن الحدّ من انبعاثات الكربون، كما أنه يخسر معظم الأسواق العالمية الأخرى لصالح منافسه الصيني. 

لكن هذا ليس الخيار الأوحد. خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في يوليو، اقترح الرئيس السابق دونالد ترمب، وهو معروف بتشدده تجاه الصين وتشكيكه بجدوى المركبات الكهربائية، دعوة الشركات الصينية لبناء مصانع سيارات في الولايات المتحدة بدلاً من المكسيك. برغم المخاطر المحتملة، يمكن أن تعود هذه الخطوة بالنفع على الجانبين.

فتح الأبواب

حين فتحت الصين قطاع صناعة السيارات المحلي الذي كان متواضعاً أمام الشركات الأجنبية قبل ثلاثة عقود، اشترطت عليها أن تدخل في شراكات مع شركات محلية على أن تملك هذه الأخيرة 50% من الأسهم على الأقل.

منح ذلك الشركات الأجنبية فرصة تحقيق النموّ الذي تبتغيه واكتسبت الشركات الصينية التقنية والخبرة. يمكن لواشنطن أن تضع شروطاً مشابهة اليوم، مع إضافة متطلبات أمنية تتعلق بالتقنية المتصلة بالإنترنت وتحديد النماذج التي يمكن إنتاجها، مع التركيز على الفئة الأرخص من المركبات الكهربائية.

قد يتردد المصنّعون الأميركيون حيال السماح لنظرائهم الصينيين بالحصول حتى على موطئ قدم في السوق الأميركية. لكنهم بحاجة للضغوط التنافسية والخبرة التي تجلبها شركات مثل “بي واي دي”.

قد تستصعب الشركات الأميركية أن تقرّ بأن هناك ما يمكن أن تتعلمه من منافسين أجانب كانت تعتبرهم سابقاً شركاء صغار، لكن ديترويت سبق أن شهدت تجربة مشابهة.

حين أجبرت واشنطن شركات يابانية مثل “تويوتا” على بناء مصانع لها في الولايات المتحدة في الثمانينيات، ساعد ذلك الصناعة المحلية المترددة والمتمسكة بالماضي على تعلم تقنيات تصنيع جديدة حين كانت تعاني ضغوطاً من ارتفاع أسعار النفط. من أمثلة ذلك التعاون كان مصنع “نومي” (NUMMI) المشترك بين “جنرال موتورز” و”تويوتا” في فيرمونت بولاية كاليفورنيا، وقد أصبح لاحقاً أول مصانع “تسلا” لإنتاج مركبات كهربائية.

مصالح مشتركة

يكاد يستحيل، على الأقل في الوقت الراهن، التفوّق على هيمنة الصين على صناعة المركبات الكهربائية، سواء لناحية السعر أو تحكّمها بسلسلة الإمداد. لقد أثار حصول “فورد” على ترخيص من الشركة الصينية العملاقة “كونتمبوراري أمبيريكس تكنولوجي” (Contemporary Amperex Technology) لاستخدام تقنية بطاريات أرخص تتكون من الليثيوم والحديد والفوسفات عاصفةً سياسيةً، لكن أثر هذا تافه من حيث تطوير صناعة مركبات كهربائية أميركية قابلة للنموّ. لكن يمكن للولايات المتحدة أن تستخلص دروساً من تجربة الصين لترفع المستوى.

أما الصين، برغم كل سطوتها، فهي بحاجة إلى السوق الأميركية. صحيح أن سوق الولايات المتحدة أصغر من حيث عدد الوحدات المباعة، إلا أنها تتفوق من حيث الإيرادات. ويمكن لاتفاقيات قائمة على مشاريع مشتركة بقيادة أميركية أن تسهم في الحدّ من تدهور علاقات الصين التجارية، ليس فقط مع الولايات المتحدة، بل مع أسواق أخرى بدأت بفرض قيود على الواردات الصينية، ومنها الاتحاد الأوروبي وكندا.

كتبت زونغيوان زوائي ليو من “مجلس العلاقات الخارجية” في مقال حديث أن بكين بنت ازدهاراً بالاعتماد على “استراتيجية اقتصادية عمرها 10 سنين تضع الإنتاج الصناعي في مقام يفوق ما سواه، وتلك مقاربة أحدثت مع مرور الوقت فائض سعة هيكلي ضخم”.

ينطبق هذا على المصانع القادرة على إنتاج 40 مليون سيارة سنوياً، فيما تستوعب السوق المحلية أقل من 30 مليون سيارة. رغم الزهو الذي تبديه صناعة السيارات الصينية، فهي بحاجة لاندماجات ولدخول أسواق خارجية بحذر، كي تتجنب دفع الحكومات لتوصد الأبواب دونها.

في المقابل، ينبغي على الولايات المتحدة تجنب الانغلاق على نفسها داخل قوقعة الحمائية الضيقة، والانفتاح بدل ذلك على سباق المنافسة الحرة.

قد يبدو قبول أن تكون للصين ميزة من قبيل التنازل، حتى إن كان ذلك في ظل شروط يُتفق عليها بالتفاوض. لكن في الواقع، خوض هذه المخاطرة بهدف التعلم من المنافسين، وربما التفوق عليهم لاحقاً، سيعكس ثقة بالنفس أميركية أصيلة.

باختصار

تلخص المقالة الصعود السريع للصين في صناعة السيارات، لا سيما في قطاع السيارات الكهربائية، في حين أن الولايات المتحدة، التي كانت تتصدر هذه الصناعة لعقود، متأخرة في هذا المجال. تمثل الصين الآن أكبر سوق ومصدر للسيارات، وتتفوق في مجال السيارات الكهربائية بفضل رؤيتها رباعية الدفع متعددة الأغراض التي تستهلك الوقود.

يرى الكاتب ليام دينينغ أن على ديترويت، المركز التقليدي لصناعة السيارات الأمريكية، أن تتبنى انفتاحاً أكبر على الصين بدلاً من التحصن خلف السياسات الحمائية. قد يتضمن هذا التعاون مع الشركات الصينية لتعلم تقنيات تصنيع السيارات الكهربائية بتكاليف أقل، مما قد يمنح الولايات المتحدة الفرصة للحاق بركب المنافسة العالمية.

ملحوظة: مصدر الخبر الأصلي هو صحيفة اقتصاد الشرق